يفترض في مثل هذه الأيام أن تعلو الأهازيج والأغاني الليبية في كل مدينة وشارع. لا مظاهر للاحتفالات المركزية في شرق البلاد وغربها. لم يوزع العلم الليبي «القديم – الجديد» على الناس كما جرت العادة. غابت البهجة عن وجوه الليبيين. «الله أكبر» تحية الثائرين على نظام العقيد معمر القذافي تلاشت تقريباً، بعد أن كانت تتكرر على مسمعيك كل دقيقة بالكثير. وحده صوت الرصاص بقي يسمع بانتظام كيف ما وليت شطرك في البلاد. ذكرى السابع عشر من فبراير أو الثورة على القذافي مرت خجولة جداً هذا العام. مظاهر الاحتفال كانت أشبه بعابر سبيل على الحكام الجدد.
الثورة الأولى انتهى وقعها حقيقة، القذافي مات وصار من الماضي، ليبيا اليوم تعيش ثورة جديدة يتصارع فيها «الكرامة» و«فجر ليبيا». الطرفان يدعيان الأحقية في وراثة النظام السابق. أسالا ما لا يغتفر من دماء الليبيين خلال العامين الماضيين. دمرا ما بقي من بنى تحتية متهالكة أصلاً. ضربا حتى المنشآت النفطية، مصدر رزقهم الوحيد في البلاد. تغيب الثقة بين الطرفين، كأنهما ليسا من أهل البلد نفسه.
مصادر تؤكد أنّ وفداً
من مصراتة سيتوجه قريباً إلى القاهرة للقاء السيسي

الأمن مستباح والفوضى عارمة، وحده التطرف كان ينمو في ليبيا. داعش ومشتقاتها لن يفوتوا فرصة كهذه تأتيهم على طبق من ذهب لتكوين دولتهم أو إمارتهم. لا يحتاجون إلى العمل سراً، كل شيء هنا مباح، السلاح موجود بوفرة وبمختلف الأنواع، المقارّ الرسمية فارغة تبحث عمّن يعيد تشغيلها. المعسكرات تنتظر من يبعث فيها الروح بعد هجرتها. هذا ما فعلته داعش بسهولة، قامت بملء الفراغ بإتقان.
لم تعد داعش الليبية مجرد حالة عابرة أو فصيلاً صغيراً في هذا البلد المغاربي، أصبحت قوة يحسب حسابها وتسيطر على مناطق استراتيجية كسرت. مدينة تتوسط ليبيا على الساحل، عائمة على بحر من النفط والغاز، فيها جميع المؤسسات الحكومية، كأنها دولة ضمن الدولة، فلطالما حاول القذافي نقل العاصمة من طرابلس إليها دون جدوى. أهلها من أبناء القذاذفة أو غيرهم من القبائل ومن ذوي الأصول الموريتانية يرون أنفسهم في حل من أي ذنب أو معصية في مناصرة داعش أو على الأقل عدم مقاتلتها، فالحمم الهائلة التي سقطت على رؤوسهم من قبل الناتو أيام وجود القذافي في المدينة، وقتل أبنائهم بذريعة مناصرتهم للعقيد، فضلاً عن تهميش المدينة وأهلها بعد نهاية النظام السابق، جعل قسماً من أهل سرت حضنا لداعش ومأوى له.
لا يختلف المشهد في درنة القريبة من الحدود المصرية عن ذلك في سرت. معروفة المدينة تاريخياً بانتمائها إلى الفكر الإسلامي المتشدد، صدرت العديد من الشباب إلى أفغانستان للقتال وأسسوا ما يعرف بـ«الجماعة الليبة المقاتلة». عاد العديد من هؤلاء الشباب إلى ليبيا بعد انتهاء الجهاد ضد «السوفييت» وهدفهم إطاحة القذافي، لكنه تمكن منهم وقتل وسجن العديد من قياداتها. انتفض رجالات درنة مع انطلاق الثورة على القذافي، يعود رجالاتها المتشددون للظهور وحمل السلاح، فهذا الأمر أكثر ما يجيدونه. يسقط القذافي فتنقسم «الجماعة الليبية المقاتلة»، قسم منها يذهب مع عبد الحكيم بلحاج الذي أسس حزب الوطن الإسلامي، وقسم كبير منهم ـ يُعَدّ بالآلاف ـ يبقى على خطه الأساس، ويبدأ باستدعاء الليبيين والعرب المقاتلين في سوريا والعراق واليمن ويؤسس إمارة درنة قبل أن يعلن مبايعتها لأبي بكر البغدادي.
لهاتين المدينتين عمق في الجنوب الليبي، ويحكى يومياً عن نشاط قوي للجماعات المتشددة في الكفرة وسبها وغات، وفي الصحاري المفتوحة غير المتناهية بين ليبيا والنيجر وتشاد والجزائر ومالي، وصولاً إلى المغرب.
كل هذه الأجواء جعلت التطرف ينمو بسرعة قياسية في الفوضى الليبية. أصبح قوة معتبرة لا يستهان بها، لهم اتصالاتهم مع فروعهم في تونس، يضربون ويقتلون ما بين الحين والآخر قوات الأمن. يتحركون بحرية في جبال الشعانبي بين الجزائر وتونس. يقلقون الجار المصري «الحساس» من كلمة إسلامي مهما كان إنتماؤه، فكيف الحال مع داعش على حدود؟
لم يكن داعش حاضراً بشكل علني في طرابلس، قوات «فجر ليبيا» المؤلفة من قوى إسلامية يطغى حضورها على الأطراف المتشددة. لكن مع دعوة برناردينو ليون المبعوث الأممي الخاص إلى ليبيا للحوار يبدأ الفرز في قوات فجر ليبيا. العاصمة تشهد عودة للرصاص والاشتباكات. يوافق المؤتمر الوطني على الجلوس والحوار مع مجلس النواب في الشرق، فيأتي التفجير الانتحاري في فندق كورنثيا - مقر إقامة العديد من البعثات الغربية - في العاصمة. داعش يهدد الغرب ويلوّح للداخل. يعلم أن لا مصلحة له في أي اتفاق ليبي.
يرفع داعش مستوى التحدي مع مصر والغرب، يقتل واحداً وعشرين قبطياً مصرياً ذنبهم أنهم مسيحيون فقراء يبحثون عن لقمة العيش وسط الحرب الليبية. ويهدد روما بفتح إسلامي برسالة شفوية وآخرى عبر البحر الذي حمّله دم المصريين الأبرياء.
تهز فعلة داعش العالم، أوروبا ترى أن التطرف صار قريباً من ضفتها، شواطئ ليبيا الممتدة على مساحة 2000 كيلومتر مربع من دون رقيب قد تحمل قوارب الموت «الداعشية» إليها كما تحمل يومياً قوارب المهاجرين الأفارقة. تستنفر روما قبل غيرها، حملت السكاكين لنحر الرقاب والأحزمة الناسفة على مقربة منها. وتدعو بصوت عال إلى تحالف دولي لمحاربة التطرف في ليبيا.
أوروبا تستشعر الخطر، لكن مصر هي التي نالت الصفعة من داعش، وجدت القيادة السياسية والعسكرية في القاهرة نفسها في وضع حرج، ما العمل؟ ما هو الرد الأنسب على هذه العملية؟
تجتمع القيادة المصرية ليلاً، تضع الخرائط المعدة مسبقاً حول نقاط تمركز داعش في درنة، تبلغ حلفاءها في الشرق الليبي - أي الحكومة واللواء حفتر - بأنها على استعداد لتنفيذ الهجوم. تغير المقاتلات المصرية على درنة، تدمر وتقتل من تقتل هناك. يشعر الشارع المصري بالانتعاش، تهلل القنوات المصرية للضربة، يبارك أركان الجيش واللواء حفتر وحكومة الثني العملية، وترفض حكومة الغرب الليبي الهجوم الذي تراه اعتداءً على السيادة الليبية.
تنتهي المعركة هنا، السيسي شخصياً يريد الذهاب أبعد من الغارات، يدعو إلى تحالف دولي لضرب الإرهاب في ليبيا، يطالب بقرار عربي موحد لمواجهة التطرف. يأتيه الجواب سريعاً أن القرار ليس بيد مصر. الرسالة الأميركية بـ«لا» للحرب في ليبيا وصلت عبر مجلس التعاون الخليجي. استنتاج ذلك ليس صعباً. فإدانة مجلس التعاون الخليجي لمصر بعد المواجهة الكلامية بين مندوبي قطر ومصر في الجامعة العربية كانت الرسالة الأولى للسيسي. وسحب بيان الإدانة بعد ساعات ما هو إلا ترطيب للأجواء.
يفهم السيسي إشارات الغرب، يعلم أن سقف تحركة لا يتعدى الغارات الجوية على شكل «مسكنات». يحق له فتح مخازنه لتسليح الجيش الليبي. الشرق الليبي ليس ساحة جديدة عليه، لطالما كانت المخابرات المصرية تعمل في هذه المنطقة في زمن القذافي ومبارك، بتنسيق بين الراحل عمر سليمان رئيس جهاز المخابرات العامة يومها، وأحمد قذاف الدم ابن عم القذافي ومنسق العلاقات المصرية الليبية المقيم في القاهرة. ويحمل التاريخ أيضاً ارتباطاً للشرق الليبي بمصر لقربها الجغرافي والتزاوج بين العائلات في البلدين. الشرق قد يقبل إلى حد ما مشاركة مصر في حرب الجيش الليبي على الإرهاب، بعكس الغرب الليبي الذي لا يجد أي قبول بذلك، بل هناك نوع من النفور والتعالي الليبي على المصريين.
بموازاة العمل الميداني، تفتح مصر الخطوط مع القوى الأساسية في مدينة مصراتة وخصوصاً مع مع اللاعب الأساسي هناك «فجر ليبيا»، التي سبق لها أن فتحت خطوط التواصل مع القاهرة للوصول إلى تفاهمات مع حفتر وحكومة طبرق، بعدما بدأ خطر داعش يهددها، هو لوح بدخولها والسيطرة عليها، المدينة تستنفر أمنياً، نقاط الالتقاء مع مصر تزداد. مصادر خاصة تؤكد لـ«الأخبار» أن وفداً من المدينة سيتوجه قريباً إلى القاهرة للقاء السيسي للبحث في حل سياسي. على ما يبدو، إن أعيان هذه المدينة قرروا التمايز عن حلفائهم في «فجر ليبيا» ويتجهون فعلاً للدخول في مصالحات تخفف الاحتقان وتفتح آفاقاً للحل. ووفق مصادر مطلعة، تجري منذ فترة ليست بالبعيدة اتصالات بين مصراتة وخصومهم الزنتان للوصول إلى تفاهمات مشتركة، وهو ما يمثل تقدماً ملحوظاً بالنظر إلى المواجهة العنيفة بين الجانبين في معركة مطار طرابلس التي انتهت بهزيمة الزنتان وانسحاب قواتها إلى مدينتها.
حوارات تفتح بين القوى الليبية ومع الدول المجاورة، ومبعوث الأمين العام للأمم المتحدة برناردينو ليون يسعى في الحوار الليبي – الليبي إلى تذليل العقبات قبل جمع قوى الشرق مع الغرب. الحوار سجل أربع جولات حتى الآن، آخرها في مدينة غدامس الليبية. لم يلتق وفد المؤتمر مع وفد البرلمان يومها. المؤشرات كانت تدل هذه المرة على أن الطرفين سيلتقيان وجهاً لوجه وسيبحثان مباشرة في إنهاء الانقسام الحاصل قبل أن يقرر برلمان طبرق مقاطعة جلسات المغرب.