تبدأ حكاية الشهيد ياسر نمر قرنبش (أبو الفضل)، من قرية صلحة في شمال فلسطين المحتلة، تلك التي تعود أصوله إليها، هناك حيث كان جدّه نعيم أبو موسى قرنبش، أحد وجهاء القرية المصنفة ضمن «القرى السبع».

عام 1948، خلال مقاومة الفلسطينيين للعصابات الصهيونية، استشهد عمّا أبو الفضل، موسى ومصطفى، رمياً بالرصاص أمام عينَي والدتهما، ففقدت صوابها، وقد دفنا في فلسطين، وظلّت متحسرة، تبكي حتى وفاتها. أما نمر، والد أبو الفضل، فهو فدائي وقائد في الجنوب، قاتل في صفوف حركة «فتح»، وعمل مرافقاً للقائد العام للثورة الفلسطينية الشهيد ياسر عرفات. أصيب في إحدى المعارك التي شارك فيها، بـ 3 رصاصات، أدت إصابته إلى وضع قطعة معدنية فوق جزء من جمجمته، رافقته حتى وفاته قبل أعوام. وخلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، أسرت قوات الاحتلال نمر، ونقلته إلى معتقل أنصار، حيث بقي هناك 15 يوماً. وحينها، «اتفق» مع الإسرائيليين على أن يسلّمهم 500 مسلح، بشرط الإفراج عنه، ونجح في الهرب إلى بيروت في شاحنة لنقل الأثاث. وفي اليوم التالي، اكتشف جنود الاحتلال أنهم خدعوا، فعمدوا إلى هدم منزله، وأسر العديد من شباب قرية زوطر الشرقية انتقاماً ممّا فعله نمر بهم.

أول الغيث «جيرة»
بينما كان الأب نمر يقاتل في الجنوب، كانت عائلته في بيروت، حيث الجد نعيم، وأحفاده العشرة، ضمنهم ياسر الذي كان عمره في سنة الاجتياح 14 عاماً. كانوا يسكنون في الشياح، بالقرب من منزل عماد وفؤاد مغنية، ومصطفى بدر الدين. وهناك، كان اللقاء الأول، بين الشبل الصاعد المنتفض ياسر قرنبش ومغنية وبدر الدين، وآخرين من القادة الأوائل للمقاومة الإسلامية في لبنان. من هناك، بدأ المشوار الجهادي لياسر؛ التحق بأولى دوراته العسكرية، وبدأ بالمرابطة، والمشاركة الحقيقية منذ سنة 1990.
عرفنا، نحن عائلته، الطريق الذي اختطّه لنفسه، فكنا نعيش معه لحظات الجهاد، وننتظر رجوعه بعد كل عملية في بيت جدي نمر في حيّ السلم. كان يغيب لأسابيع، ويعود لأيام قليلة، ثم يرجع إلى القتال. قاوم وجرح مرات، هكذا قضى 36 سنة من التعب الشديد، والسهر والمسير في الجبال والوديان، وهكذا ظل حتى استشهد في 9 تموز 2024.
خلال مسيرته الجهادية، جهّز مقاومين، واستقطب العشرات، درّبهم، وكان رفيقاً لمئات من الذين استشهدوا قبله. هؤلاء، بعضهم كانوا ضيوفاً دائمين في بيت جدنا نمر، نجالسهم، وأحياناً بعد أسبوع يختفي قمر منهم، فنقرأ بيان استشهاده، ومنهم على سبيل المثال: صلاح غندور، وهادي نصر الله، والشيخ أبو ذر، وعبد الرسول، وميرزا، وعمار حمود الذي كان قد أوصى بأن ينزله إلى قبره أبو الفضل قرنبش.

عمليات وأمانة الأمين
جاهد في أماكن عدة، منها التي نعرفها، ومنها التي ستبقى ربما طيّ الكتمان. فكان مع إخوانه، في نبع الطاسة، وتنقل في محور الشهيد، وعرمتى، وسجد، والريحان. وكذلك في أحد الكمائن في حرب تموز، حيث قُتِل جنود في القافلة الإسرائيلية، كما دمرت آليات عسكرية إسرائيلية بالأسلحة المضادة للدروع... كان الشهيد «أمين»، مع إخوانه، يصنعون «النصر الإلهي».
امتدت مسيرته إلى سوريا، فشارك في العديد من المحاور، في إدارة فرق عسكرية هجومية لحماية قرى ومدن عدة، وصولاً إلى المهام السرية جداً، المتعلقة بنقل السلاح والأفراد إلى لبنان. وفي فترة من الفترات، كان الشهيد «أمين» مرافقاً للسيد حسن نصر الله، وقد أقسم أنه يكره الظهور، لولا «التكليف» بحماية الأمين العام لحزب الله. ومضى الوقت الذي قضاه مع السيد، ولا نعرف كم استمر، ولا كيف كان، ولا متى بدأ، ولا متى انتهى.

بين عائلته
كما كان التزامه في الجهاد التزاماً أخلاقياً قيمياً عقائدياً، كان التزامه بعائلته، بزوجه وأولاده: محمد علي وفاطمة وحسن. كنت أدرّس الأولاد، فكان يأتي صدفة، يطرق الباب طرقة مميّزة، فنترك ما بيدنا جميعاً ونذهب لاستقباله، فيلاعب الأولاد، ويعلّم، ويستمع، ويهتم بكل التفاصيل الصغيرة والكبيرة. كان لا يفوّت مناسبة تخصّ عائلته إلا ويقيم لها شأنها. وهناك قصة لا يمكنني أن أنساها، ففي الحرب السورية، تعرّض لكمين «داعش»، فاستهدفت السيارة الخاصة به. وكانت عائلته تنتظره، فجاء مصاباً، لكنه يحمل قالب حلوى لمناسبة عيد ميلاد ابنته فاطمة.