(دينا مطر)
إنّ هذه التغيّرات، التي أظنّ أنها بدأت قبل الحرب بكثير، لن تنتهي أو تتوقف بانتهاء الحرب. فهي في الحرب، لمّا اتّضحت أكثر، باتت تُمثّل قانوناً ناظماً بين الناس، في ظل غياب مفاهيم العدالة والمسؤولية التي تحتكم إلى الأنظمة التي كانت قبل الحرب. وقد طاولت شرائح المجتمع كافة، وجعلت الأقوى قادراً على فرض رؤيته ومفاهيمه على الناس، حتى ولو كانت بشكل غير مشروع.
في 17 تشرين الثاني 2023، دعا رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو، إلى صُنع تغيير ثقافي واجتماعي في قطاع غزّة، على غرار اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. وهو ما سعت وتسعى إليه إسرائيل، عبر سياساتها التي سبقت الحرب، والتي كانت تُمارسها على أهالي قطاع غزة طوال السنوات التي مضت، بعدما انسحبت من قطاع غزة، وأطبقت عليه الحصار لاحقاً.
واتّسمت سياسات الاحتلال بالهدوء والصبر، وتخلّلتها مواجهات عنيفة بين الفينة والأخرى. وبمراجعة التجارب الاستعمارية، فإن الأمر على هذه الشاكلة يبدو طبيعياً في السلوك الاستعماري. فالعنف ليس شكلاً أو نمطاً واحداً، فليس بالضرورة أن يكون بدنياً، عبر ممارسة التعذيب على جسد المستعمَر، بل يمكنه أن يكون عنفاً اجتماعياً ونفسياً واقتصادياً أيضاً. والأمران حصلا مع الشعب الفلسطيني في قطاع غزة. والهدف من العنفين، هو هندسة النظام الاجتماعي الموجود في فلسطين عموماً، وقطاع غزة خصوصاً.
أمّا لماذا فعلت وتفعل إسرائيل ذلك، لأنها تريد النتيجة: كائناً مسخاً، فاقداً للهوية والكرامة، وغير مضطلع ومهتم وقادر على مقارعة الاحتلال. فعلى سبيل المثال، عندما فرضت إسرائيل الحصار على الغزّيين، طمحت إلى تحديد السعرات الحرارية لأفراد المجتمع، للمحافظة على الحياة لا أكثر، مع عدم القدرة على بذل مجهود بدني، كحمل السلاح والقتال. وهو ما يتناسب مع تطلّعات قوّتها الاستعمارية التي تفرضها، فالغذاء لا يمثّل فكرة الطعام وحسب، بل يمثّل نمط العيش، والتأثير النفسي على الإنسان، وتداعيات كل ذلك على السلوك اليومي الفردي، والسلوك الجمعي.
ومثال آخر، جرّب العنف الاستعماري ممارسته، للوصول بالفلسطينيين إلى نتيجة عدمية، متعلّقة بقبول الاحتلال، كحالة قوّة ليس هناك نتيجة من مقاومتها. وحاول الوصول إلى ذلك، من خلال فرض واقع ثقافي جديد، مشوّه، يقمع القيم والثقافة الأصلية للشعب الفلسطيني، التي انضوت تحتها حالة المقاومة للاحتلال. هذا العنف، يهدف أيضاً إلى خلق مصطلحات جديدة في الصراع، كـ«الواقعية» التي هي أمر جيد في العادة، لكن في الحالة الفلسطينية، المطلوب من هذا المفهوم هو الاستسلام، بذريعة قوة الاحتلال، وضعفنا، وأن «صمودنا في ضعفنا»، وأن «مقاومتنا بقبول الأمر الواقع»... ومن هذه المصطلحات الرديئة التي دخلت إلى تلافيف أدمغة البعض. وجرى تفعيل هذه المفاهيم عبر شخصيات ثقافية وحزبية لا تعمل مع الاحتلال مباشرة، لكنها تخدم أجنداته من حيث تدري أو لا تدري، وذلك عبر بثّ أفكار جلد الذات، وذبحها، ووسم المجتمع كلّياً بالتخلّف والرجعية، ونفي صفات التحضّر عن مجتمعنا. وقد بدأت هذه الأفكار من الاحتلال عبر ما ذكر أعلاه، مروراً بحالات فلسطينية، عودة إلى الاحتلال، الذي وصفنا بـ«حيوانات بشرية» على لسان وزير حربه يوآف غالانت، في أول الحرب.
هذا الواقع الثقافي - الاجتماعي، الذي عمل عليه الاحتلال، بدأ منذ ما قبل النكبة عام 1948، وقد نجح في بعض المواضع، ولعلنا ننتبه إلى الصراع الأهلي القائم على وسائل التواصل الاجتماعي بين الغزاوية والضفاوية وأبناء الشتات، فهو ليس وليد الحرب، إنه وليد سنوات من عمل الاحتلال عليها. وما العنف المفرط في قطاع غزة سوى لتحقيق غايات إبادية أخرى، لا تتمثل بإبادة البشر في الحيّز الجغرافي المتمثل بقطاع غزة فقط، بل الغاية النهائية له، إبادة الهوية الفلسطينية الجمعية. ولعل صفحات التواصل الاجتماعي التي تغذي هذا الصراع، والمموّلة والمدفوعة من الغرف السُّود في مؤسسات الاحتلال، دليل إضافي على أهمية هذه الغاية لدى الاحتلال، وخطرها الكبير علينا كشعب ووجود. فلم تتمكن إسرائيل من إبادتنا كشعب على مرّ 76 عاماً، فقام بما قام به من مقاومة، والمطلوب اليوم إبادة هذا الوجود، بالعنف المفرط كما نشاهده في غزة، وبالعنف «الناعم» على باقي الشعب الفلسطيني والشعوب المؤيدة لقضية فلسطين.
شكّلت غزة صورة عنها، باتت مع الوقت نمطية. فقد ارتبطت صورة قطاع غزّة في أذهان الفلسطينيين خارجها، بأن غزّة هي الذراع القوية لفلسطين. وقد كبرت هذه الصورة بعدما اجترحت فصائل المقاومة في قطاع غزّة أدوات جديدة لمواجهة الاحتلال، ولم تكن موجودة قبل إخلاء المستوطنات، وانسحاب جيشه من القطاع. ومع خفوت العمل المقاوم في الضفة الغربية للأسباب المعروفة، أخرجت حالة المقاومة في غزة شعارات تبدو شعبية، لكنها سياسية بامتياز، مثل «مشان الله يا غزّة يلّا». الشعار الشهير هذا، جاء توازياً مع عدم تلبية طموح الفلسطينيين بالتصدي، ورغبتهم بالخروج على الحاكم، وعدم رضاهم عن المنظومة المستسلمة الراضخة والمتعاملة مع الاحتلال. كذلك، فإن هذا الشعار يعبّر، من ضمن ما يعبر، عن الرغبة في التمرّد التي يطمح إليها أيّ شعب تحت الاحتلال.
إن الصورة أعلاه، وتمثلها المشار إليه، تتجاهل حق الغزّيين في اختيارهم لصورتهم أمام الآخرين. وهي أيضاً تفرض عليهم واقعاً مفاهيمياً جديداً، لا يقبل مفهوم الضعف الطبيعي، والإنهاك بعد المواجهات الكبيرة. وأشير هنا إلى التعليقات من خارج قطاع غزة، على كل غضب أو سخط يخرج من داخل غزة، بعبارة «اللي داخل غزة مسموحلو يقول اللّي بدّو يّاه» فهي تبدو، كأن الغضب والسخط ليس من حق الغزي، وهذه منحة له، أنه مسموح له أن يقول ما يشاء، طالما أنه تحت المقتلة.
إن الغزّيين حين يعبرون عن تعبهم أمام العالم لا يعني إطلاقاً أنهم خانوا المقاومة، أو تخلّوا عن فلسطين، أو باعوا الثورة، أو انقلبوا عليها. لكنّ ردّ الفعل على تعبير أهل غزة عن مقتلتهم يشير برأيي إلى مجتمعات مخترقة، أو من السهل اختراق وعيها، وبالتالي هي جاهزة إلى هندسة واقع ومفاهيم مجتمعية جديدة. ولعل هذا ما علينا كفلسطينيين الانتباه إليه، لأنه واقع سيقود إلى إبادة «ناعمة» كما سبق وأشرت أعلاه.
إن كل ما سبق ساعد في تكوين صورة أسطورية لغزة. وكل ما سبق، يساعد على العقاب النفسي والاجتماعي، إذا ما اهتزت الصورة في الأذهان، في الخارج، ولدى بعض من هم في داخل غزة. أما الواقع، وهذا كلامي الذي أتحمّل مسؤوليته، فغزة مثلها مثل أيّ مجتمع يرزح تحت الاحتلال، لديها الحق الطبيعي والعادي جداً في أن تكوّن الصورة الخاصّة بها، وترفض الصورة المفروضة عليها. فغزة تحب الحياة، وهذا معروف بعيداً عن المجاملات الكلامية، وتحبّ المقاومة وتمارسها، ككلّ مكان محتلّ. وتغضب حين تُخذَل، وتسخط حين تشعر بأنها تركت وحيدة.