كشفت حرب الإبادة الجماعية على غزة صورة الغرب الحقيقية، وبدّدت كل الادّعاءات المعلنة لتلك النظم، التي طالما تبجّحت بأن نظامها السياسي قائمٌ على القانون والديموقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان.

وتعدّ ألمانيا نموذجاً صارخاً في سقوط الأقنعة، وتكشّفها بسرعة دراماتيكية، فكلّ تلك القيم سقطت دفعة واحدة. فلم يقتصر السلوك المتناقض على الساسة الألمان فقط، بل طاول الأمر تشريعات قانونية وقرارات إدارية، تشمل قانون التجنيس الذي بدأ العمل به نهاية حزيران الماضي، وقوانين الإقامة والهجرة عبر إدخال شروط جديدة كلّها تصبّ بشكل واضح في خدمة دولة الكيان الصهيوني.
المقيمون الفلسطينيون في ألمانيا مستاؤون من هذه المتغيّرات الكبيرة التي جرت بعد 7 أكتوبر، وخاصة أن بعض القرارات الجديدة وضعت على أساس الانحياز المطلق لإسرائيل، ومن شأنها التأثير على حياة اللاجئين، والعرب وكل متضامن مع القضية الفلسطينية. فهذا عمر ضراغمة، فلسطيني يقيم في ألمانيا منذ 8 سنوات، يصف الوضع الراهن لـ«الأخبار»: «إننا نعيش اليوم، كأننا في تل أبيب» ويضيف: «منذ البداية، هناك ملامح للتحيّز الأعمى إلى دولة الاحتلال من قبل الألمان، فالموظف الألماني رفض وضع جنسيّتي الفلسطينية في طلب اللجوء، معلّلاً ذلك بأن ألمانيا لا تعترف بفلسطين». وفي تفسير هذا الإجراء، يوضح عمر، وجود خانة في طلب اللجوء، وخاصة بالذين «بلا وطن»، فاستخدمها الموظفون الألمان للتحايل على المصطلحات، بإضافة «غير معرّف» في إشارة إلى الفلسطينيين. ويرى عمر أن السبب في ذلك أن مقدّم طلب اللجوء في حال كان «بلا وطن» وفق القانون الألماني يمنح الجنسية في وقت أسرع.
الأمر ذاته حصل مع هيثم الحسين اللاجئ الفلسطيني من لبنان، المقيم في ولاية الراين غرب ألمانيا، وقد عانى لأكثر من 12 عاماً، قبل حصوله على جنسية البلاد. ففي حكاية الحسين، موظف ألماني أخفى وثيقة السفر الفلسطينية من ملفه، ليمنعه من الحصول على الجنسية.
مثلهما عائلة فاطمة أحمد اللاجئة من مخيم اليرموك، التي تخضع لمعالجة طلبات تجديد الإقامة، في مدينة شتوتغارت جنوب ألمانيا. توضح فاطمة أن التجديد عالق منذ أكثر من سنتين، لتوضح أن الجهاز الوظيفي الألماني متحيّز ضد الفلسطينيين، وقد لاحظت أن ملفات الفلسطينيين تعلّم بإشارة، عبارة عن ثلاثة أحرف «xxx»، تشير إلى أن صاحب الطلب فلسطيني.
أما وسيم العلي، فقصته مختلفة قليلاً، لكنها تخضع للأسباب نفسها عند أقرانه، فقد حصل على الجنسية الألمانية حديثاً، ويقيم في هامبورغ شمال ألمانيا، ولديه عمل، ومتقن للغة الألمانية، ومتطوع في مؤسسات للخدمة. لكنه حين تقدّم بطلب لجلب والديه، رفض الطلب في المرة الأولى، وفي المرة الثانية، بذريعة أن دخله غير كافٍ لإعالة العائلة، وتأمين طلباتها، علماً أن وسيم أرفق لموظفي الهجرة الألمانية وثائق تثبت أن والده مريض ويحتاج إلى رعاية صحية دائمة، فضلاً عن أن وسيم هو المعيل لوالديه.
أما عن القوانين الجديدة، والقرارات الإدارية التي بدأت ألمانيا بها، وخاصة تلك المتعلقة بإرفاق وثيقتين جديدتين في ملف التجنيس، حيث ترتبط الأولى باعتراف المجنّس الجديد بحق الجالية اليهودية العيش بسلام في ألمانيا، إضافة إلى الوثيقة الثانية، وهي الأخطر بنظر كل المقيمين الفلسطينيين في ألمانيا، وتتعلق بالاعتراف بدولة الاحتلال كدولة للشعب اليهودي، يقول عمر: «أنا شخصياً، لن أوقّع على الوثيقة الثانية في حال شملنا طلب التجنيس، حتى لو أدى ذلك إلى مغادرتي ألمانيا». وعند سؤاله عن موقف الفلسطينيين والعرب من هذه الوثائق الجديدة، ومدى استعدادهم للتوقيع عليها، أشار إلى أن معظم من يعرفهم من الفلسطينيين لن يوافقوا على التوقيع على الوثيقة، مهما كان الثمن. في المقابل، يرى عمر أن هناك إمكانية للاعتراض القانوني عليها، عبر توكيل محامٍ، مؤكداً أن محتويات الوثيقة تتعارض بشكل جوهري مع الكثير من القوانين الدستورية الناظمة لألمانيا.
لم تتوقف الإجراءات الألمانية عند هذا الحد، فقد وصلت إلى مستويات هستيرية، لا تدل على وجود الحد الأدنى من العقلانية، فالحكومة الألمانية، وتحديداً وزارة الداخلية، بدأت تعدّ سلسلة قوانين، تتعلق بحرية التعبير، في ما يتعلق بالموقف من دولة الاحتلال الصهيوني، فبات التعليق على وسائل التواصل الاجتماعي الممجّد لـ«الإرهاب الفلسطيني» وفق التصور الألماني، يستوجب الطرد من البلاد. هيثم الحسين أشار إلى هذه النقطة بالقول «باختصار ممنوع أن نتكلم، إذا أردنا البقاء في بلاد تدّعي أنها موطن للحرية».
ألمانيا ليست البلد الوحيد المتبنّي للرواية الصهيونية، لكنها كما يبدو ستختلف عن غيرها أكثر وأكثر، عبر شرعنة انحيازها المطلق بالقانون المحلي، حتى لو أدى ذلك إلى تخلّيها عن كل القيم التي تأسّست عليها الدولة الألمانية الحديثة، لتقود بشكل واضح الفلسطينيين فيها إلى محنة جديدة، وإلا فعليهم خيانة تاريخهم وذاكرتهم وهويّتهم، من أجل الانتماء إلى «الأمة الألمانية»، مع المفارقة أن قانون الجنسية الجديد يسمح لكل الجنسيات الأخرى بالاحتفاظ بجنسياتهم السابقة، أمّا الفلسطيني بحسب تعريفهم فـ«غير معرّف».