[مهدي عامل، «نقد الفكر اليومي»]
في الثالث عشر من حزيران 2024، استشهد الشاب محمد عصري فياض، برفقة محمد جابر، بعد أن قامت قوات العدو بمحاصرة المنزل الموجودين فيه في بلدة قباطية في جنين. وأبو العصري امتشق السلاح من سنتين، ولم تفته أي مواجهة، واستشهد بجانبه العديد من المقاتلين في اشتباكات مثل زياد الزرعيني ومحمود العرعراوي وإسلام الخمايسة وبهاء لحلوح ومحمد عزمي ومحمد أبو الحسن. وكان في كل مرة، إمّا أن يصاب أو يكون بينه وبين الموت لحظات. مثلاً، عندما استشهد الزرعيني، كان أبو العصري قد ذهب لتوّه ليحضر الرصاص، وإذ بالزرعيني يرتقي شهيداً، وذلك في يوم اغتيال عبد الفتاح خروشة.
في هذا المقال، نحاول أن نتتبع سيرة الشهيد في ضوء الحالة النضالية في جنين. وبالتركيز على فكرة فقدان الآباء لأبنائهم في خضم مواجهة مشتعلة منذ مئة عام. وذلك من خلال مقابلة مع والده، الزميل عصري فياض، وكتاب «قبس من نور المسيرة: الشيخ المجاهد بسام السعدي يتذكر» (تحرير عصري فياض، «مؤسسة مهجة القدس»، 2022)
تعود عائلة فياض إلى قرية تُعرف باسم الغُبَيَّات (أي الغابات الصغيرة) بين حيفا وجنين، التي تضم تجمع التركمان، وتقع على السفوح الشرقية لبلاد الروحاء (أي بلاد الرائحة الزكية)، وكانت على تل يشرف على مرج ابن عامر. وكان عدد سكانها 1130 نسمة عام 1945، طُردوا من منازلهم في آذار 1948 على يد «الهاغاناه» و«البلماخ». ودُمّرت القرية تدميراً تامّاً بعد هجوم مستوطني كيبوتس «مشمار هعيمك» الواقع شمالي غربي القرية في 25 نيسان 1948. أمّا الآن، فتقع أجزاء من مستوطنة «مدراخ عوز» على أراضي القرية.
نزحت عائلة الشهيد محمد فياض بعد هذه الأحداث وكان جدّه مع الثوار الذين قاتلوا عام 1936. واستقرّت بعد النكبة في مخيم جنين، الذي أقيم في موقعه الحالي غرب المدينة في منطقة محطة القطار عام 1950، وكان فيه سكّان من 59 قرية ومدينة وتجمّعاً. وفي عام 1967، خرج أفراد العائلة لأيام من منطقة مخيم جنين، وعادوا إليها ليجدوا احتلالاً عسكرياً تسبب في هدم منزلهم في المخيم عام 1970، بعد قيام أشقاء عصري بإنشاء مجموعة مسلّحة تابعة لحركة «فتح»، قامت بتنفيذ عمليات، دفعت العدو لاعتقال شقيقه وحكمه بالمؤبّد، أمّا الشقيق الآخر فحُكم 28 عاماً غيابياً. بينما عصري، الذي ولد عام 1964، بدأ عمله النضالي مع «فتح» في بدايات الثمانينيات، وكان من مؤسّسي «حركة الشبيبة» عام 1984، واعتُقل في سنوات الانتفاضة الأولى.
تخلّى عصري عن «فتح» بعد توقيع اتفاقية الاستسلام في أوسلو عام 1993، وتعمّق أكثر في إرث الثورة الإسلامية في إيران. لقد كان معجباً جدّاً بها، وكان يقدّم محاضرات داخل السجون عنها.
أمّا عن أمّ الشهيد محمد فياض، فهي من عائلة مناضلة قدّم فيها أخواها، محمد وأياد المصري، حياتهما في معارك الانتفاضة الفلسطينية الثانية، بشجاعة منقطعة النظير، في اشتباكات داخل أزقّة المخيم، وحتى في معسكرات العدوّ الصهيوني، حيث كانا يقتحمانها للحصول على الرصاص والعتاد العسكري. وفي اشتباكات حصلت في يوم 11 أيلول 2001، كان أياد قد خرج من المنزل، بعد أن طلب من والدته أن تقوم بخياطة الجعبة العسكرية، وقد تسلّق فوق دبابة واستشهد فوقها.
بسام السعدي مواسياً عصري فياض
في كتابه الذي حرّره عصري فياض، يذكر الشيخ بسام السعدي يوم استشهاد نجله إبراهيم في 15 تشرين الثاني 2002، وذلك بعد شهرين ونصف شهر من استشهاد ابنه عبد الكريم، كيف تلقّى الخبر، ففي ذلك نفّذ الاستشهاديون أكرم الهنيني وولاء سرور وذياب المحتسب عملية زقاق الموت في وادي النصارى الخليل، وكانت رداً على استشهاد القائد إياد صوالحة، وقد أسفرت عن مقتل ثلاثة عشر جندياً صهيونياً، بينهم القائد العسكري لمنطقة الخليل. سُرَّ إبراهيم بذلك كثيراً، وقرّر إلقاء بيان إشادة بالعملية عبر مئذنة المسجد، رغم رفض المؤذن لذلك. وفي تلك الليلة، اقتحمت قوات العدوّ مخيم جنين والمدينة، وجرت اشتباكات عنيفة، وعند الفجر تظاهرت القوات الصهيونية بالانسحاب، مع إبقاء وحدة قناصة مختبئة في منزل، وعند الساعة السابعة صباحاً قرّر إبراهيم العودة إلى المنزل ظانّاً أن لا جنود صهاينة في المكان، فقام القناص بإطلاق عليه الرصاص فارتقى شهيداً، تماماً كما حدث مع شقيقه عبد الكريم.
هذه الخسارة المؤلمة في استشهاد أبناء الشيخ بسام السعدي، وهو مطارد، لا يقدر حتى على وداعهم، حصلت بعد أشهر من استشهاد والدته الحاجة أم العبد السعدي، حين اجتاح العدو مخيم جنين بعد تنفيذ الاستشهادي حمزة السمودي عملية في مجدو أسفرت عن عشرات القتلى والجرحى الصهاينة في الخامس من حزيران من نفس العام. يوم داهمت قوات العدو منزل الشيخ بسام، وقال الضابط لوالدته إنهم قاموا بقتل بسام، على الفور أصيبت الحاجة أم العبد بجلطة دماغية، ارتقت إثرها شهيدة، وفي بيت عزائها الذي لم يستطع الشيخ حضوره، قامت قوات العدو بقتل ابن شقيقه الطفل بسام غسان السعدي، الذي سمي على اسم الشيخ.
تعيدنا الحالة الممتدة في مخيم جنين منذ سنوات، إلى نمط من التضحية والفقدان والبطولة، يقدّمه أهل المخيم شبيهاً بالانتفاضة الثانية، فبالأمس رأينا كيف ترجّل نضال إلى والده زياد العامر، وكيف لحق أيهم بأيسر العامر، وكيف لحق محمد زبيدي بشقيقه نعيم، وكيف اختار الوالد أمجد الجعص طريق ابنه الشهيد الطفل وسيم، وكيف ارتقى أربعة أشقاء من عائلة درويش في لحظة واحدة بعد قصف العدو لهم. وقد سبق لعصري فياض أن كتب مقالات عنهم.
أمّا عن الشهيد المثقف محمد عصري فياض، الذي ارتقى برفقة محمد جابر وقيس زكارنة، و30 شهيداً من قطاع غزة، في اليوم الذي شيع فيه الشهيد الحاج أبو طالب في قرية عدشيت في جنوب لبنان، فقد بدأ يومه حينها باجتياح جنود العدو الصهيوني مخيم جنين، وإعلانه منطقة مغلقة. وبعد اشتباكات وتصدّ، انسحب أبو العصري وأبو الجابر إلى بلدة قباطية جنوب جنين، حتى يتسنى لهما الراحة من المعركة، والظاهر أن الاجتياح كان عبارة عن تكتيك، حتى يخرج المقاتلون من المخيم، ويتم اغتيالهم. وما إن وصلوا إلى منزل غير مسكون في بلدة قباطية حتى قامت قوة خاصة بمحاصرة المنزل.
يصف عصري المشهد كالتالي: «كنت أجلس مع العائلة، وأتصفح الإنترنت، وفجأة قال ابني إن أبو العصري وأبو الجابر حوصرا في منزل في قباطية، حينها كان لدي عقل وطار. خرجت من المنزل مسرعاً، رغم وجود قناصة وجنود العدو، وحاولت التوجه إلى قباطية، لكنني لم أستطع، فبقيت أمام المستشفى منتظراً الأخبار، وحينها علمت أن الشباب لا يريدون تسليم أنفسهم، ويودون القتال حتى النهاية. كنت أعلم أن محمد ابني مهدد بالاغتيال، وكان قد قال لي إنه لن يسلّم نفسه، وسيسير على درب أصدقائه الشهداء، وعلمت بعدها أن أبو العصري وأبو الجابر أتيا إلى البيت من دقائق، واستمر الاشتباك نصف ساعة، لكن وبسبب القذائف الصاروخية والقناصة، ولأن المنزل جديد وشبابيكه واسعة، ولا يوجد مكان فيه للاختباء، استشهدا بعد أن اشتبكا وأصابا ضابطاً. أما عن أصعب المشاهد التي يمكن لإنسان أن يراها، فكان مشهد الجرافة الحاقدة، وهي تقوم بهدم شرفة المنزل والتنكيل بأجساد الشهداء المعلقة على حديد المنزل، والجنود يقومون برفس الشهداء بأقدامهم بشكل فظ وقاس، حتى يتمكنوا من إنزال الجثامين لمصادرتها. الحمد لله كنا نتوقع استشهاده ونحن الآن في فخر واعتزاز».
«قبس من نور المسيرة»
يذكر الشيخ السعدي، في كتابه، أنه في مسجد الشيخ عز الدين القسام الذي يتبع لحركة «الجهاد الإسلامي» في بيت لاهيا، صلوا جميعاً خلف الشيخ عبد العزيز عودة، وانتظروا وصول المؤسس الدكتور فتحي الشقاقي، الذي دخل وصافحهم وتعرّف إليهم وجلس معهم، وهو يثني عليهم ويثمّن حضورهم بصوته الدافئ وابتسامته البهية الأخّاذة، بقسماته الإيمانية، وكلماته الرصينة، وتصرفاته المتزنة، ولباقته الفريدة، وحياته المفعمة بالتواضع، وسُمُوّ أفكاره وعمقها.
كان الشيخ بسام في أوّل لقاء له مع الشقاقي، كانت دقائق، لم تكن طويلة، قارن فيها ما يقرأه في مجلة «الطليعة» وما يراه أمامه، ليكتشف التكامل بين الثقافة والواقع، بين فيض الفكرة ونبعها الأول.
محمد عصري فياض، مواليد 9 كانون ثاني 1998، درس في مدارس المخيم، وحصل على شهادة الثانوية العامة، والتحق بالجامعة العربية الأميركية في جنين، في تخصّص الرياضة، ولم يتبق عليه سوى إكمال مساق أخير، ليكمل متطلبات التخرج. كان أحد أعضاء فريق «المركز البلدي الاجتماعي» وكانت مهاراته عالية، ذكياً ولبقاً وفطيناً ودمثاً وكثير المشاكل، ومنذ صغره سليط اللسان، ولا يرحم أحداً. بدأت مسيرته النضالية في اجتياح 2002 حين كان عمره 4 سنوات، لما خرج مع والدته ووجد كيس رصاص، قدّمه للشباب المطاردين. والجميل في شخصيته أنه كان معروفاً للكثير من مقاتلي الانتفاضة الثانية، ويتفاعل معهم بشكل رحب، ففي طفولته جلس مع محمود طوالبة وعلاء الصباغ وزكريا زبيدي وثائر أبو الكامل، وقد عاصر العديد من مقاتلي الكتائب، وتناول معهم الطعام، ومشى بجانبهم في عروضهم، كان قوي الشخصية، حتى إنه قال لزكريا زبيدي في إحدى المرات إنه رأى المقابلة التي أجراها على التلفاز ولم تعجبه.
قبل التحاق أبو العصري في «كتيبة جنين»، كان من صغره ينتمي إلى حركة «الجهاد الإسلامي» في فلسطين، ويرى فيها تحرير فلسطين. اعتقل 7 أشهر بسبب ضربه الحجارة والزجاجات الحارقة على جنود الاحتلال عام 2018، وفي الأسر أخد تجربة فكرية واجتماعية جديدة، عرّفته إلى المناضلين الذين أصبحوا أعضاء الكتيبة في ما بعد. والمميز أنه منذ صغره رياضي، لذلك كان نشيطاً وسريعاً وليناً، ولديه القدرة على القفز والاختباء والركض، فلياقته البدنية العالية مكّنته من خوض مواجهات مسلحة لساعات طويلة، كانت تنتهي باستكمال عمله في زرع العبوات، وتحفيز الشباب على العمل طوال الوقت، «فالثورة ساعات عمل» كما يصفها جورج حبش.
وفي حين كانت انطلاق الكتيبة في اشتباكات مسلحة عن طريق البنادق واستخدام الأكواع، رأينا قفزة في استخدام العبوات، والحواجز، وصفارات الإنذار، والشوادر التي تعيق طيران الاستطلاع، وكذلك كاميرات المراقبة، وأدوات التواصل المشفرة. أمّا عن أهم تطور نوعي ظهر في اجتياح تموز 2023، فكان استخدام الكتيبة لنفق من أجل الانسحاب من مسجد الأنصار، وصحيح أن العدو الصهيوني فجّر النفق، إلا أن فكرة استخدام هذه الأداة بحد ذاتها، تعبّر عن بذل طاقة هائلة في التحضير للمواجهة.
أمّا قرب محمد من والده عصري، وسماعه لأحاديثه الدائمة، وأيضاً التحاقه في التعليم الجامعي، فكل ذلك جعله من أعضاء الكتيبة المثقفين الذين يهتمون بالمعرفة والقراءة والتأمل والنقد، رغم طابع العمل الميداني. أمّا عن المطاردة، فمنذ فترة طويلة حين بدأ نشاطه مع الكتيبة، واحتضن العديد من المطاردين مثل إسلام خمايسة وكامل أبو بكر، فقد تحوّل مثلهم إلى مطارد، وكان جيش العدو يقتحم المنزل مرات عديدة بحثاً عنه، وفي آخر اقتحام قاموا بضرب أشقائه ضرباً مبرحاً، إلى حد أن أثاث المنزل امتلأ بالدماء، كما قاموا باعتقال شقيقه مهدي، وهو حتى اليوم في سجن مجدو.
خاتمة
«أمضى الشيخ في هداريم أياماً من أجمل ما يكون، وقد نسج علاقات قوية مع الجميع، وجاء إلى القسم بعدها الأسير اللبناني الشهيد سمير القنطار وبعدها الأسير مروان البرغوثي، والأسير يحيى السنوار، والأسير الشيخ جمال أبو الهيجا، والأسير جمال حويل، والأسير بسام أبو عكر، والأسير سامح شوبكي، والأسير أيمن طبيش، والأسير خالد الزواوي، والأسير عبد الخالق النتشة، والأسير كمال أبو نعيم، وقد كان هؤلاء الأسرى الطلائعيون في فصائلهم يجتمعون أحياناً صباحاً من الساعة العاشرة ولغاية الساعة الثانية عشرة في جلسة هي أشبه بصالون سياسي، يتم خلاله مناقشة الأوضاع السياسية والوطنية».
في صباح السابع من أكتوبر، أيقظ الشهيد محمد فياض والده عصري ليخبره بعمق الحدث الذي لم تصدّقه عيناه، حين رأى نموذجاً واضحاً لفكرة تحرير فلسطين. صحيح أنّ الإيمان بهزيمة كيان العدوّ في الضفة الغربية هو أكثر صعوبة من غزة أو لبنان، في ظلّ عدم وجود غطاء سياسي مع بقاء السلطة الفلسطينية، مقتنعة ومستفيدة ببقاء العدو الصهيوني، لكن العلامة الفارقة أن «الكتيبة» أثبتت أنها بديل حقيقي، عبر محاولات إعطاء طابع مختلف لفكرة المطاردة والأرض الآمنة نسبياً في المخيم، وتكليف العدو في الاقتحامات. أمّا العامل الآخر، فهو متعلّق بثبات المقاومة كفكرة ومشروع في غزة ولبنان والعراق واليمن وإيران والدول المناهضة للإمبريالية.
أمّا غير المستوعب في هذه التجربة، فإنها تتطوّر بشكل لا يمكن فهمه دائماً عقلياً، فهي خارج حسابات الربح والخسارة والمنطق، فثقافة التصالح مع فكرة الشهادة، واعتبارها، كما يقول أبو العصري، «حسنة في طريق النصر»، تخلق نوعاً من المواجهة، متجذرة أسفل طبقات عميقة من الوعي الشعبي في ضرورة الحرية والعودة. وخير مثال على ذلك، حوار حصل بين الشهيد محمد العصري والشهيد محمود العرعراوي، اتفقا فيه إن استشهد أحدهما قبل الآخر، أن يأتيه في المنام، ويقول له عن المكان الأفضل، وبالفعل بعد استشهاد العرعراوي أتى إلى أبو العصري في المنام، وقال له: الحق بي فأنا الآن في حضرة الشهداء.