كلماته قليلة، وإن نطق تحدّث عن القضية. يعمل كبائع خُضر ويلوّن «البسطة» على شكل العلم الفلسطيني. لا يُعرف شيء عن أصله وفصله وحياته، فالغموض يكتنف كل تفاصيل سلوكه ويومياته. وفي لحظة «رواق»، سألته: «عم عطية... لي ما تزوجت وجبت أولاد، مش أحسن ما تضلك لحالك؟». أجاب أنه تزوج وعنده أولاد، وعاد إلى سكوته المريب. وفي فضول المراهق، قلت: «وينهم؟». قال فوراً: «عند ربهم». وبعد إلحاح بأسئلة كثيرة، وغالبيتها شخصية، روى قصته أو قصة جيل بأكمله.

(«فدائي فلسطيني» للمصور الشهيد هاني جوهرية 1970)

العم عطية، ولد في خيمة عام 1950 في مخيم نهر البارد شمال لبنان، بعدما تهجّرت عائلته من قرية الخالصة شمال فلسطين المحتلة. تعلّم في مدارس وكالة «الأونروا»، ومن ثم انتقل إلى التعليم المهني، ليكون في سوق العمل بأسرع وقت، فتخرّج «مخرطجي» في معهد سبلين التابع للوكالة. لكنه لم يعمل بها، فالتحق بمعسكرات الثورة الفلسطينية، وأصبح فدائياً، وترك «نهر البارد» بعد زواجه. وانتقل إلى منطقة الكرنتينا، وحين وقعت المجزرة فيها في كانون الثاني 1976، نزح مع عائلته إلى مخيم تل الزعتر، ومع اشتداد القصف والحصار على المخيم، تمكّن من إخراج عائلته بسيارة إسعاف، فقتل مسلحو حزب «الكتائب اللبنانية» زوجته وجُرح طفلان له. بعد ذلك، تسلل إلى خارج المخيم، وتسلّم طفليه، وذهب بهما إلى شقيقته في مخيم شاتيلا، حيث تسكن مع عائلتها. كبرا مع أبناء عمتهما، وحين استباحوا شاتيلا في صيف 1982، كان في صيدا بمهمة فدائية. وأسعف القدر أحد أطفاله، ليختبئ داخل برميل في البيت المتهالك، لكن كل من في البيت أصبحوا شهداء. أصيب الطفل بحالة نفسية صعبة، جراء ما شاهد، فتبنّته منظمة نرويجية، وأخذته إلى أوروبا للعلاج والدراسة. ولم يعد.
بقي العم عطية في صيدا، واعتقلته قوات الاحتلال، فأُسر لسنتين في معسكر أنصار الشهير. ومن حينها، حياته صامتة، على الرغم من كل الضجيج فيها. الغريب أنه لم يعترف باسمه الحقيقي، ويبدو أن «عطية» اسم غير مناسب لهكذا شخص جسور صابر. وفي يوم، تجرأت وسألته: «بتعرف الشاويش عطية بأفلام إسماعيل ياسين؟»، ابتسم للمرة الأولى، وطردني بمحبة. لكن قبل وفاته بأشهر قليلة، وكانت حينها انتفاضة الأقصى مشتعلة، وأرئيل شارون يهدد ويرعد على شاشة التلفاز، تحمّس قائلاً: «هذا الجزار يجب أن يُقتل، عندي ثأر شخصي معه». وبعد استرسال في الحوار، عرفت أن اسمه الحقيقي محمد، وعطية هذا صديق له، استشهد فحمل اسمه للتمويه والاختباء. ويبدو أن المناضلين الحقيقيين يعتبرون أن كل تضحياتهم وأفعالهم لا شيء أمام أهدافهم الحقيقية. فهذا الرجل خسر كل ما يملك تقريباً، وعاش غريباً مشرداً، وعند الاستفسار عن تفاصيل، لا يجيب ويفاخر بأمور لم يفعلها، كما يفعل غيره. والأهم ما ذكره عند سؤاله إن ندم على مسيرته، قال جملة غريبة: «القضية يا عطية»، وفي التفاصيل، أن صديقه عطية لم يكن يريد التوجه معه في تلك المهمة في إقليم التفاح، لكنه أقنعه مردّداً عليه عبارة «القضية يا عطية». لم يعد عطية حتى في كفن، فالاحتلال قصف الموقع، واحترق معه ليتحوّل رماداً.
■ ■ ■

قصة العم عطية، مشابهة لحكايات كثيرة أو هي حكاية الشعب الفلسطيني. وفيها من الألم والدم الكثير الكثير. ويأتيك أحدهم لا يعرف تاريخ قضيته وشعبه ويكتب:
«إحنا... إحنا اللي رحنا على 7 أكتوبر... ليش رحنا؟ وشو حققنا؟ يعني إذا أقصى مطالب حماس اليوم، هي العودة لما قبل 7 أكتوبر، فمن حقنا نسأل: ليش حضرتك عملت 7 أكتوبر إذا كانت أقصى مطالبك العودة إلى ما قبل 7 أكتوبر؟».
طيب، هذا الكلام لمناضل قديم وأكاديمي، ويبدو منطقياً، لكن ما هو غير منطقي، توقيت السؤال، والعدوان لم ينته، ولم تُعرف النتائج الكلية لـ«طوفان الأقصى». وبعيداً عن «الترهات الفايسبوكية»، هل سأل المناضلون الحقيقيون يوماً عن هدف النضال والمقاومة؟ فالإجابة بديهية: لأن ذلك حق وواجب وهدف أخلاقي وإنساني للتحول من مرحلة العبودية إلى مرحلة الحرية والمواطنة.
وبدا واضحاً أن جوقة لها رأس في غرف سوداء، تحاول توجيه الرأي العام، بطرح الوضع الإنساني كنقيض للمقاومة: لماذا نقاوم، وهذه الفاتورة الكبيرة من الضحايا؟ لماذا نقاتل من أجل الوطن؟ الوطن هو الشعب وليس الأرض... هذا الأمر كان محرّماً سابقاً، فمن سأل ياسر عرفات عن عشرات آلاف الشهداء في معارك حقيقية، وجانبية، ومحو مخيمات عن الخريطة؟ لأن الناس يعرفون أن هذه المعارك في سياقها كانت أمراً واقعاً، والتضحية هي للدفاع عن النفس، أو لتحقيق الهدف الأسمى أي التحرير والعودة. ومعروف أن عامة الناس لا تحلل سياسة، ولا يهمها استراتيجيات الدول، إنما تحركها الغريزة الفطرية والعقائدية.
وبالتالي، الشعب الفلسطيني له غريزة وعقيدة واحدة: القضية. وإذا تنازلنا عن فطرتنا، تحوّلنا تلقائياً من السكان الأصليين إلى الركاب المغادرين للتاريخ والجغرافيا. ولعل العم عطية ونداءه في ذاك الموقف عن القضية باعتبارها الأصل في تعريف وتوضيح كل ما يحصل، يلخّصهما الفنان أمير عيد في رائعته «تلك قضية» (كلمات الشاعر مصطفى إبراهيم):
«مش فارقة العالم يتكلم
موت حر وما تعيش مسلّم
تلهم جيل ورا جيل يتعلم
كيف يعيش ويموت لقضية».