في السادس من حزيران عام 2021، ألقى رئيس حركة حماس في قطاع غزة، يحيى السنوار، كلمة خلال لقاء خاص نظّمته دائرة الجامعات في الحركة. الخطاب ليس متن الكلام هنا، بل ما تضمّنه من تفاصيل لم يَعِ السامع مراميها وقتئذ. حديث الرجل المعروف بصراحته، أعطى إشارات لا تدع مجالاً للشك، بأن القادم مرحلة مفصلية، قد تغيّر وجه الصراع مع الاحتلال، وتنقله إلى مرحلة متقدمة، تضع وجود الكيان على المحك.لن أعرّج على جميع محاور الكلمة، التي تجاوز وقتها الساعة والنصف، وأكد فيها السنوار غيرَ مرة، كفاءة المقاومة وقدرتها على صناعة المشهد، وإنما سأكتفي باقتطاع جزء منها، لا يزيد على الدقيقة.
يومَها قال القائد ما نصه: «سنجعل الاحتلال أمام خيارين، إما أن نرغمه على تطبيق القانون الدولي واحترام القرارات الدولية، بالانسحاب من الضفة والقدس وتفكيك المستوطنات وإطلاق سراح الأسرى وعودة اللاجئين، وإما أن نرغمه نحن والعالم على هذه الأمور، ونحقق إقامة دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام سبعة وستين بما فيها القدس. أو أن نجعل هذا الاحتلال في حالة تناقض وتصادم مع الإرادة الدولية كلها، ونعزله عزلاً عنيفاً شديداً، وننهي حالة اندماجه في المنطقة، وفي العالم كله، وحالة الانهيار التي حدثت في كل جبهات المقاومة وجبهات اللاءات التي كانت في السنوات الماضية».
حينذاك، ربما بدا الكلام، في الشكل والمضمون، شعبويّاً ومرتجَلاً وغير واقعي، غير أنّ الواقع في ما بعد أثبَت العكس. لكنْ وقبل الخوض في التفاصيل، وبعد التدقيق في هذه الجزئية من الخطاب، يمكن الخروج ببعض الاستنتاجات العامة:
- الرجل براغماتي، يرمي الكرة في الملعب المقابل. منفتح على الحلول المنطقية، وصاحب ذهن متّقد. ينطلق من كونه صاحب حق. له باع في السياسة كما في المواجهة. وكذلك لا يسعى لاختلاق المشاكل مع المجتمع الدولي، بل يعمل على توظيفه، عبر وضعه أمام مسؤولياته، المتمثّلة بإلزام الاحتلال باحترام القرارات والاتفاقات، ذات الصلة بالقضية الفلسطينية.
- أبدى السنوار، بوضوح، تمسكه بالحقوق الوطنية المفصلية والمبدئية، وعدم استعداده للتنازل عنها، وعلى رأسها القدس والأسرى واللاجئون، ضمن سلة حلول متكاملة، غير قابلة للاختزال.
- أحياناً يَطلب المرء المستحيل، ليقيم الحجة على غيره، وهذا جوهر ما كان يرمي إليه السنوار بتقديري. بعبارة أخرى، إنّ وراء الأكَمة تهديداً مبطناً للاحتلال، بأن تملّصه من التزاماته، سيؤدي إلى تفجّر الأوضاع. وكأنّ قائد حماس في غزة، يقول من دون أن يصرّح: نعلم أن الاحتلال غير مستعد للتنازل خلال عام أو أقل، ونحن لم تعد لدينا الطاقة للصبر، وواجبنا أن نواجه.
- التصريح لا يعني القبول بالقليل أو المجتزأ، وإنما يُكسب قائله شرعية المقاومة، انطلاقاً من الرفض الإسرائيلي للحلول، وهذه نقطة دقيقة تؤكد عقلية السنوار، التي تُزاوج ما بين الضغط الميداني والمراوغة السياسية.
- أخيراً، في الحديث دلالة على وجود مخطط مدروس، لتطويق إسرائيل وعزلها، وزعزعة مكانتها في العالم، وفضح صورتها على الملأ، بطريقة، تصعّب ترميم الصّدع.
في النتيجة، قال السنوار مقاله، ثم كان «طوفان الأقصى» الذي تكفّل بالترجمة العملية للخطاب عسكرياً وسياسياً. بكلّ تجرد، لم يكن بالإمكان، قبل «السابع من أكتوبر»، تصوّر إسرائيل في هذه الحالة من الترهل والاستنزاف، وانحسار الخيارات، والفشل في تحقيق الأهداف. الانقلاب الجذري الذي أحدثه الهجوم ذلك اليوم، في الصورة العامة، كان أشبه بزلزال حرّك المياه الراكدة، وأنهى حالة الجمود الوطنية السائدة، وقلبَ الموازين رأساً على عقب، وأعاد الحياة للمشروع التحرري بمفهومه التشاركي الواسع، عقب سنوات من المقاومة الانتقائية المقنّنة.
هندسة «طوفان الأقصى» قامت على قاعدة، أنّ أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم. هنا تقتضي الإشارة إلى أنّ نقل المواجهة إلى ملعب الخصم -ولو لوقت قصير- وضع الاحتلال أمام مفترق طرق وجودي، وأعاد تذكير الكيان بأنه طارئ على المشهد، وبأن زواله في حدود الممكن، بتوافر العناصر المطلوبة.
إنعاشُ الذاكرة الإسرائيلية مطلوب من وقت لآخر، والتحكم بوعي المستوطنين واجب، لأنهم نتاج حالة الاقتلاع والإحلال، التي قام عليها المشروع الصهيوني، وبالتالي، لا بد أن يشعروا على الدوام، أنهم على أرض لا أمانَ لهم فيها.
حديث السنوار العالي السقف قبيل «الطوفان» لم يأت من فراغ، فعلى المستوى الاستراتيجي، عملية «السابع من أكتوبر» حطّمت أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، وجعلت نظرية الردع الإسرائيلية، مرادفاً للتندُّر والسخرية، فضلاً عن أن الهجوم نسف كل قواعد الاشتباك، وأصاب المشروع الاستيطاني في مقتل، وأحدث بالتوازي انقساماً عَمودياً وأفقياً غير مسبوق في إسرائيل، على المستويات السياسية والشعبية والأمنية والقانونية، ولهذه الجزئية أهمية بالغة، ستثمر في قادم الأشهر.
كما من مآثر العملية وتجلّياتها أيضاً، وضع تل أبيب أمام الخيارات الصعبة على الجُملة، ومثولها أمام المحاكم الدولية للمرة الأولى، وامتلاء الساحات والميادين والجامعات في الغرب، بالمتظاهرين والمعتصمين المندّدين بجرائم الاحتلال والساخطين عليه، إلى جانب تآكل الدعم السياسي الخارجي للكيان، واستعادة حملات المقاطعة زخمها، ويضاف إلى ما سبق، فرملةُ قطار التطبيع، -بسبب الحرج غالباً- وأخيراً وليس آخراً، اشتعال الجبهات المساندة لقطاع غزة ومقاومته.
النتائج التي تمخّضت عن «طوفان الأقصى» هي عينُ ما تكلم به السنوار في خطابه الذي بُنيَ عليه هذا المقال. فقد أثبت أبو إبراهيم، بالحنكة التي يدير بها المفاوضات، وملاحظاته على المقترحات، وتمسكه بالمطالب، والنفَس الطويل في مقاربة النوازل، أنه يواجه الاحتلال بالعقلية الاستعلائية الإسرائيلية نفسها، ويحترف سياسة حافة الهاوية، ويعلم أن ما يفعله، لن يكون أبداً، مجرد زوبعة في فنجان.