تُعدّ الجبهة الداخلية في إسرائيل جزءاً مهمّاً في الاستراتيجية الإسرائيلية، وتنال الثناء أو الانتقاد مثلها مثل الجيش والمستوى السياسي، نجاحاً أو فشلاً. وفي ذاكرتي عندما كنّا، كأعضاء في تنظيمات اليسار الفلسطيني، نقرأ كثيراً عن تجارب الشعوب، أنّ القيادة الفييتنامية ألغت عملية عسكرية كان مخططاً لها، لمجرد أن نقصاً في إحدى المواد الغذائية ظهر في الأسواق، إذ إنّ الإعداد الصحيح والتام لأي معركة يتطلب تأمين جميع متطلبات المعركة، ليس سلاحاً فقط، إنما تأميناً لجميع ما تحتاج إليه الجبهة الداخلية للصمود ودعم المجهود الحربي.فماذا عن جبهتنا الداخلية فلسطينياً، قبل وخلال وبعد عملية «طوفان الأقصى» في 7 تشرين الأول 2023، التي برز فيها نقص هائل في تأمين الجبهة الداخلية على أكثر من مستوى، بل وفي تجارب سابقة خاضها الفلسطينيون، وما مدى ضرورة تأمين متطلبات هذه الجبهة الداخلية؟

نشوء فكرة الجبهة الداخلية
وفق بعض المصادر، نشأ مفهوم الجبهة الداخلية خلال الحرب العالمية الأولى، التي مثّلت أول حرب شاملة يتورط فيها الجنود والمدنيون على حد سواء، إذ إنه قبل ذلك كان القتال يتم بين قوتين عسكريتين في مساحات خالية من السكان، وكانت الحروب قصيرة الأمد، وعدد المتقاتلين قليلاً، والجيوش تضم جنوداً محترفين.
في الحرب العالمية الأولى تغيّر شكل الحروب، فباتت المعارك تدور حول وداخل المناطق المأهولة، وتعطّل الحياة اليومية فيها، ليس فقط من خلال قصفها، بل أيضاً من خلال تجنيد جميع المؤهلين كي يصبحوا مقاتلين، وبالتالي إحداث مشكلة في الإنتاج الاقتصادي وفي العلاقات الاجتماعية. ولذلك، عملت حكومات بريطانيا وفرنسا وألمانيا على وضع اقتصاداتها في خدمة المجهود الحربي، وطُلب من المدنيين تحويل أعمالهم إلى ما يدعم المجهود الحربي. وتمّ تحويل كل فرد في تلك المجتمعات نحو تحقيق هدف واحد، هو هزيمة العدو.
وإذا كان المفهوم قد نشأ في خضمّ الحرب العالمية الأولى، فإن في الحرب العالمية الثانية استعدّ أطرافها مسبقاً لها من خلال إعداد البنى التحتية الآمنة في المناطق المأهولة، وتطوير الصناعة الحربية مسبقاً وخلال الحرب، وبالطبع تكريس الجهود الاجتماعية والاقتصادية للمجهود الحربي.

التجربة الإسرائيلية
قبل الخوض في تجربة الجبهة الداخلية فلسطينياً، أو بالأحرى غياب الاهتمام بهذه الجبهة الداخلية حالياً، لا بد من نظرة سريعة إلى البنية الدولاتية للحركة الصهيونية في فلسطين، والتي جعلت من إعلان قيام إسرائيل في عام 1948 مجرد إعلان سياسي، إذ سبق هذا الإعلان تأسيس سياسي، واقتصادي، واجتماعي، وعسكري. ومن هذا المنطلق تشكل إسرائيل «حالة فريدة من ناحية مدى التخطيط المسبق الذي جرى لإقامتها، مع أنه لم يكن هناك أرض مشتركة ولا اقتصاد مشترك». (رائف زريق، «إسرائيل خلفية أيديولوجية وتاريخية»، في مجموعة من المؤلفين، «دليل إسرائيل العام 2020»، بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2021، ص 27).
فالحركة الصهيونية كانت عبارة عن دولة داخل الدولة في فلسطين، يساعدها في ذلك اندماجها في المشروع الاستعماري البريطاني الذي أسّس سياسياً لإسرائيل عبر إعلان بلفور (المعروف بـ«وعد بلفور» - 1917)، وكانت قيادة الحركة الصهيونية في فلسطين بمثابة قيادة الدولة المزمعة، واجتماعياً عبر إنشاء «الييشوفات» التي لعبت أدواراً اقتصادية وعسكرية أيضاً، وربما كان الفصل الاقتصادي المتمثل بتأسيس الاتحاد العام لعمال إسرائيل (الهستدروت) في كانون الأول 1920 الشكل الأبرز في هذا المضمار، إذ دفعت الرأسمال اليهودي في فلسطين إلى الاعتماد على العمالة اليهودية وطرد العمالة الفلسطينية. وعسكرياً، كان لانخراط اليهود في جيوش الحلفاء في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وخصوصاً الجيش البريطاني، دور مهم في إنشاء وحدات الدفاع.
على أن التشكيلات شبه العسكرية سبقت هذا التاريخ، وبدأت قبل الاستعمار البريطاني لفلسطين، من خلال إنشاء قوة مسلحة تحت اسم حارس المستعمرات (هاشومير) في سنة 1909، أما النواة المركزية للجيش الإسرائيلي فتمثلت بتأسيس الميليشيا شبه العسكرية «الهاغاناه» في سنة 1920، والتي استفادت من التجربة اليهودية في الخدمة في جيوش دول التحالف في الحربين العالميتين، وتسلحت من بريطانيا أساساً، ومن الولايات المتحدة أيضاً، قبل وخلال وبعد الحرب العالمية الثانية.
شكّلت جميع هذه الكيانات التي ولدت في رحم الأرض الفلسطينية، الأسس التي جعلت من إعلان إنشاء إسرائيل مجرد إعلان اسمي لكيان سبق أن تأسّس وتجذّر، وتطور لاحقاً، لتكون إسرائيل الدولة الأكثر تخطيطاً في المنطقة، ولتكون مسألة الجبهة الداخلية لديها، على قدر أهمية الجيش الذي يمثّل العمود الأساسي لإسرائيل.

التجربة الفلسطينية
افتقدت التجربة الفلسطينية، عبر تاريخ نضال الحركة الوطنية الفلسطينية، لمفهوم الجبهة الداخلية، وكانت أقرب إلى رد فعل على فعل صهيوني منظّم ومُعدّ مسبقاً. وفي العموم، كانت النهايات عبارة عن خسائر فلسطينية ومكاسب صهيونية/ إسرائيلية، سواء في مرحلة ما قبل 1948، عندما كانت القيادات الفلسطينية تقليدية وعائلية وتتنازع في ما بينها على الزعامة، وبالعموم طلب العائلات والشخصيات الزعامة من حكومة الاستعمار البريطاني وليس بناءً على حضور شعبي بالضرورة. أو في ما بعد ذلك، وخصوصاً تجربة العمل الفدائي في الأردن الذي افتقد لوحدة عمل فصائلي حقيقية، إذ كان كل فصيل «يُغنّي على ليلاه» في فوضى شاملة تسببت في هزيمة الفصائل في سنة 1971، وصولاً إلى تجربة منظمة التحرير في لبنان، والتي شهدت شيئاً من تأمين لجبهة داخلية مُعدّة مسبقاً، لكن انتهت في شكلها شبه الدولاتي بعد الاجتياح الإسرائيلي في سنة 1982.
في لبنان، تنبهت منظمة التحرير لخطورة الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على المخيمات الفلسطينية والمدن اللبنانية حيث توجد المنظمة والحركة الوطنية اللبنانية، فبنت الملاجئ في المخيمات وفي المدن، وأحد تلك الملاجئ لا يزال قائماً في منطقة القنطاري في بيروت، وهو مقفل وبمسؤولية بلدية بيروت، وشجعت المواطنين على بناء ملاجئ فردية. ولا أزال أذكر الملجأ الذي بنيناه في منزلنا في مخيم البص، وكنّا نلجأ إليه عندما يبدأ القصف الإسرائيلي. كما كانت «المنظمة» تؤمّن المواد الغذائية ليس للمخيمات فقط، بل للقرى الحدودية، وفي الأحياء في المدن اللبنانية، وكان ثمّة نظام عسكري للمواجهة عبارة عن غرفة قيادة موحّدة، فضلاً عن الانتظام العام في إطار اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وإن شاب هذا الانتظام خلافات بين فترة وأُخرى، وخروج تنظيم أو تنظيمات من هذا الإطار التنفيذي، وتشكيل إطارات فصائلية خارجها على غرار جبهات الرفض.
لكن على الرغم من التنبه لضرورة تعزيز الجبهة الداخلية في تجربة منظمة التحرير في لبنان، وخصوصاً بين أواسط سبعينيات القرن الماضي وحتى عام 1982، إلّا أن الممارسات الفصائلية قوّضت من أهمية تلك الترتيبات، وجعلت قسماً مهماً من المجتمع المضيف، وحتى المؤيد للثورة الفلسطينية، إمّا معادياً أو متبرّماً من تلك التجاوزات.
ومن التجارب التي يُمكن فيها ملاحظة بنية ولو بدائية لجبهة داخلية، الانتفاضة الأولى، لجهة إنشاء قيادة موحّدة (لم تلتزم حركة «حماس» بها)، ونشوء لجان أحياء وقرى، لتنظيم الحياة اليومية، على الرغم من التجاوزات الكثيرة التي كانت تحصل.

التحضير عسكرياً والضعف مدنياً: خلاصات واقتراحات
مثّلت عملية «طوفان الأقصى» وما نتج عنها، النموذج الأبرز على تأمين جزئي للجبهة الداخلية، تختصرها ترتيبات عسكرية تخص المقاتلين، لكن من دون إعداد اجتماعي وسياسي واقتصادي، وربما بسبب عدم توقّع حجم الرد الإسرائيلي غير المسبوق والمُغطّى، على الأقل في البدايات، وكذلك عدم تقدير مدى تضامن الدول الغربية مع إسرائيل، وشيطنتها «حماس» والجانب الفلسطيني، على الأقل في الأسابيع الأولى للمعركة، وانفضاض غالبية هذه الدول عن هذا الموقف بعد تعمق إسرائيل في جرائم الحرب وضد الإنسانية، لكن مع بقاء الولايات المتحدة على موقفها، وجزئياً بريطانيا أيضاً.
يُمكن اعتبار «طوفان الأقصى» لجهة التخطيط العسكري، نموذجاً ناجحاً ومتميزاً. فالتضليل الاستراتيجي الذي مارسته «حماس» ولا سيما «كتائب القسام» لفترة طويلة قبل إطلاق العملية، قد يُصبح درساً من دروس الأكاديميات الحربية. أكثر ملامح وضوح التضليل الاستراتيجي أن «حماس» و«طوال عامين سابقين ومنذ معركة سيف القدس التي تآكلت فيها قدرة الردع الإسرائيلي كثيراً، حاول الاحتلال استعادة هيبته من خلال العربدة في القدس عبر مسيرة الإعلام والتنكيل بالمقدسيين العُزّل، ثم عبر شن حملة عسكرية ضد الجهاد الإسلامي في غزة، وفي الحالتين بقيت حماس شبه مكتوفة الأيدي وبدت كأنها مردوعة عن القتال، وهنا بات الاحتلال مقتنعاً بأن سياسة تحييد حماس نجحت وأنه يمكن شراء سكوتها عبر (السماح بـ) زيادة المنحة القطرية» (معتصم سمارة، «طوفان الأقصى: نظرة تحليلية»، مركز القدس).
وعلى صعيد البنية العسكرية، جهّزت «حماس» نفسها من خلال عملية تدريب مدروسة ودقيقة واحترافية لمقاتلي «القسام»، طيلة الفترة التي بدت وكأنها لا تريد أي تصعيد مع إسرائيل، بل تحملت جميع الانتقادات التي وُجهت لها من قبل فصائل حليفة معها، ومن قبل المواطنين الفلسطينيين أنفسهم الذين ظنوا أن «حماس» تخلّت عن المواجهة مع إسرائيل.
لقد دفع ذلك إسرائيل إلى الاسترخاء، وسط اعتقاد بأن «حماس» بات همها الحفاظ على سلطتها في غزّة، غير آبهة بما يحصل في أماكن أُخرى من فلسطين وخارجها. وفي اليوم الذي نفّذت فيه «كتائب القسام» هجومها على مستعمرات ما يُطلق عليه «غلاف غزة»، كان «الصمت» هو التوصيف الدقيق لما حصل، وفق مسؤول فلسطيني رفيع، إذ من كان على علم بالأمر عدد محدود جداً من قيادات «حماس»، أما الحلفاء، فلسطينيين وغير فلسطينيين، فعلموا بالأمر بعد 30 دقيقة إلى أكثر من ساعة من انطلاق العملية، وكان هذا التضليل الثاني الذي مارسته «حماس» باحترافية عالية. كما بنت سلسلة من الأنفاق بمئات الكيلومترات، فاقت توقعات إسرائيل نفسها، والتي ظنت أنها قادرة على التغلب عليها، لكن في نهاية المطاف صمدت شبكة الأنفاق على الرغم من الحرب التدميرية الإسرائيلية، ووصفت «رويترز» هذه الأنفاق بأنها مدينة كاملة تحت غزّة.
لكن «حماس» لم تبنِ بموازاة البنية العسكرية، بنية مدنية تعزز من جبهتها الداخلية، فغابت الملاجئ ولم تؤخذ في الحسابات ضرورة تأمين الغذاء لمدة طويلة، وربما لم تحسب أن إسرائيل قادرة على خوض حرب طويلة، إذ إنها المرة الأولى التي تخوض إسرائيل فيها حرباً تدوم كل هذه الأشهر وفي نيتها الاستمرار، حتى القضاء على «حماس» واستعادة أسراها، وفق إعلانات قادتها المتكررة.
فبعد 8 أشهر من المجازر، فاق عدد الضحايا بين شهداء وجرحى ومفقودين 120 ألفاً أكثر من نصفهم من الأطفال والنساء، وسط مجاعة في عموم القطاع، وخصوصاً في محافظتي الشمال.
أمّا سياسياً، فإنّ الانقسام لا يزال متواصلاً، بل تفاقمَ على الرغم من العدوان الإسرائيلي، وسط جبهتين فلسطينيتين: واحدة تؤيد المقاومة وتتهم السلطة و«فتح» بالتراخي، في أقل تقدير؛ وثانية تدين المقاومة، بل وصل الأمر إلى تحميلها مسؤولية الدمار في قطاع غزة، بعد سجال بشأن تكليف محمد مصطفى تشكيل حكومة تكنوقراط فلسطينية.
كما أنّ حسابات معسكر الحلفاء لم تكن واقعية، إذ إنّ مفهوم «وحدة الساحات» لـ«محور المقاومة» ظهر هشّاً، فلا «حماس» أبلغت محورها مسبقاً بمراميها، ولا المحور قدّم كل ما لديه من فعل، فاقتصر على «جبهات مساندة».
بناءً على ما سبق، يمكن التوقف عند بعض النقاط الأساسية في ما يختص بوضع الجبهة الداخلية فلسطينياً انطلاقاً من تجربة معركة «طوفان الأقصى»، ووضع بعض الاقتراحات في هذا المجال:
1 – بموازاة البناء العسكري، يتوجّب التنبه إلى ضرورة فعل كل ما يخفف من وطأة المعركة على المدنيين، من ملجأ ومأكل وحماية كافية.
2 – فعل كل ما يمكن فعله لتوحيد الجبهة السياسية، قبل بدء الفعل العسكري.
3 – تحضير جبهة الحلفاء بشكل كافٍ وواعٍ، ومعرفة غايات الحلفاء وإرادتهم وقدرتهم على المساهمة في المعركة.
4 – عدم التقليل من قدرة العدو على استيعاب الصدمة الأولى، وما يُمكن أن يقوم به بعد ذلك من أعمال دموية.
5 – العمل على التفاعل العملاني مع الرأي العام الدولي شعبياً الذي تبدّل في مرحلتين في سياق الحرب الراهنة: بداية إدانته عملية المقاومة ووقوفه إلى جانب إسرائيل كضحية؛ لاحقاً ومع توغل إسرائيل في جرائمها ضد الإنسانية، إدانتها. في الحالتين لم يكن الجانب الفلسطيني فاعلاً، إنما كان مراقباً.