فتيةٌ استبدلوا اللعب بـ«التصنيع»، واللهو بإلقاء «الأكواع»، وبراءة الطفولة والانطلاق بالتجَهُّم، وتحدي الموت المتمثل في هجمات المحتلين المتكررة على مخيّمهم، وسرقة الأرواح وإسالة الدماء والتحطيم والعبث والتنكيل، حتى أصبحت دائرة الصحبة في معظم حلقات أبناء المخيّم اليافعين الصاعدين والتنافس في ما بينهم، بالمشاركة الحاضرة في الميدان.نسيم، ذلك الفتى الذي لم يتجاوز سن السادسة عشرة من عمر الورد، الطويل القامة، الرشيق القد، القمحيّ البشرة، كانت له دائرته من الرفاق والأصحاب التي لها دور بارز في المواجهات بما ملكت أَيمانهم. عندما كانت تطلق صفارات الإنذار مؤذنة بدخول المحتل، كان يسارع لانتعال حذائه الرياضي، ويحمل حقيبته المدرسية الفارغة على ظهره، ويذهب إلى بيت صديقه الذي يحوي أعداداً كبيرة من المصنّعات (الأكواع) فيأخذ حصته منها ليشارك في المواجهات، ومن المسافة الصفر.

نسيم هذا كان الابن البكر لعائلة مكوّنة من ثلاثة أبناء وبنت وأم ترعى بيتها وأولادها. أمّا الأب، فكان يعمل داخل الأراضي الفلسطينية عام 1948، وكان كلما سمع أو قرأ عبر وسائل التواصل الاجتماعي أن هناك اجتياحاً للمخيَّم، شعر بالقلق، وبادر بالاتصال بزوجته ليطمئن على أبنائه، فهو الذي يتضور شوقاً لهم، فقد كان يغيب عنهم طويلاً في العمل، بسبب عدم حصوله على تصريح عمل لأسباب «أمنية» كما تدّعي سلطات الاحتلال، لذلك كان عليه أن يمكث هناك لأوقات طويلة، حتى لا يقع في اعتقال مخالفة المبيت في الداخل.

26 كانون الثاني 2023
شمس هذا اليوم كانت خجولة، بزغت على مخيّم جنين تحبس أنفاسها. وأثناء ذلك كانت وحدة صهيونية خاصة تقتحم المخيَّم، معزّزة بعشرات الآليات والجنود، وتحاصر منزلاً تحصّن فيه أربعة مقاومين في قلب المخيَّم في جرأة لافتة. بدأ الاشتباك، صدحت صفارات الإنذار، استفاق أهل المخيَّم، رجاله ونساؤه وشبانه وأطفاله ومنهم نسيم، الذي لم يمنعه رجاء أمه عن الخروج والذهاب إلى مصدر «الأكواع»، ملأ جعبته منها وانطلق نحو منطقة الاشتباك.
ساعات من القتال الضاري المتواصل والقصف الصاروخي على المنزل المستهدف، ومن حوله، وعلى معظم «الحواري» القريبة، امتدت الاشتباكات لتطاول من تدفقوا لفك الحصار عن المجاهدين الأربعة. نسيم يقاوم في حارة الحواشين، لقد أرهقهم وأرهق آلياتهم من فعل الإلقاء الصاخب المرعب، شاهدوه بعد أن باغتهم بآليتهم العسكرية في منتصف الشارع الداخلي، فأطلقوا عليه النار بقسوة حتى أردوه شهيداً عند مدخل أحد المنازل، ولم يكتفوا، فتقدمت الآلية، وداست رأسه ذهاباً وإياباً حتى خرج مخه على درجات المنزل.
وما إن جاء العصر، حتى كان عدد الشهداء أحد عشر شهيداً بينهم نسيم، شُيعوا جميعاً بحضور والده أمجد، كان مكلوماً ومصدوماً لا يصدق فقدانه لابنه الأكبر.

19 حزيران 2023
بعد مرور 143 يوماً على ارتقاء نسيم، عاش والده أمجد في حزن عميق، وزوجته والدة نسيم، كانت تحاول تصبيره والتخفيف عنه من فرط ما رأت من تأثر والده عليه. ملئت جدران صالة البيت المستأجر الصغير، بصور نسيم، كان الأب ينادي زوجته ويقول لها نسيم يضحك معي ويناديني لأذهب عنده! ويقسم بالله ويقول: أقسم بالله بأنه حدّثني وقال لي يا أبي مشتاقلك تعال.
تبكي الأم، وهي تحاول أن تهدّئ الأب، جاء رمضان، والأب يصر أن يبقى مكان نسيم على الإفطار والسحور فارغاً، وصحنه الفارغ أيضاً على المائدة. جاء عيد الفطر، فقضى أمجد والد نسيم أيامه ومعظم ساعاته عند رأس روضة ابنه، يكلمه ويناديه، يُجَمِّل قبره بيديه، ولا يدفعه للمغادرة إلا حلول الظلام.
انقضى العيد، وجاء يوم 19 حزيران السنة الماضية، اقتحمت قوات كبيرة من جيش الاحتلال ووحداته الخاصة، الطرف الغربي من المخيّم، وهناك علقت آليات الجيش بكمين من العبوات التي دمّرت بعضها، وجرحت سبعة جنود بجروح مختلفة، بحسب إعلام الاحتلال. ساد جو من الغبطة والحماسة في المخيّم، وتدفق الأهالي إلى الشوارع خلف المقاومين يشدون أزرهم، إلا أمجد والد نسيم، فقد خرج للخط الأمامي من المواجهة يحمل «أكواعاً» ليثأر لابنه، ويحاول أن يشفي غليله، ويسكّن حنق صدره. أشعل، ثم ألقى، ثم أشعل، ثم ألقى ثم ألقى، وصورة نسيم تتراءى أمامه، كأنه يقول له: هل تريد أكثر يا لوعة قلبي؟؟
ابتسم طيف نسيم، فشرد أمجد بذهنه غير آبهٍ بما يجري حوله من أزيز رصاص وعصف انفجارات. تقدمت قوات الاحتلال نحو مكان وجود أمجد ومن معه، جميعهم لاذوا إلى الجدران تفادياً لرصاص القناصة، إلا هو، كان بين يده «كوع» من «الأكواع» التي بقيت أمانة في جعبة نسيم. قال لن أخذل ابني سألقيها. فألقاها، وقبل أن تنفجر في الآلية الأولى المتقدمة كان الرصاص الحاقد يسكن كبده ويمزق جسده.
نُقل إلى المستشفى، ونظراً إلى خطورة حالته حُوِّل إلى «مستشفى النجاح التخصصي» في نابلس، ليبيت هناك ليلته الأخيرة قبل أن يلحق بنسيم.