هي جدتي نايفة حمادة (أم فؤاد) التي قسمت النكبة أشلاء عائلتها على الأقطار العربية، بين فلسطين وسوريا ومصر ولبنان، حالفني الحظ مرة واحدة، عندما سنحت لي الفرصة برؤيتها رفقة أخواتها (بنات محمد حمادة مختار قرية شفا عمرو) معاً داخل بيت جدتي في مخيم اليرموك بدمشق عام 2000 في مشهد واحد جمع كلاً من (حكمت، نعمات، ليلى ووداد) جئن من فلسطين و(فلة) التي جاءت من لبنان. صورة لن تذهب من ذاكرتي كيف فرّق الاحتلال بين الأخوات على مدى أكثر من 50 عاماً، وكيف استطعن صُنع نصرهن الصغير بالاجتماع مجدداً ليس في بيت والدهم بشفا عمرو في حيفا، إنما داخل بيت أختهن الكبيرة في العاصمة السورية.
استغلّت عائلة جدتي ظروفاً معينة فرضتها تلك المرحلة لزيارة سوريا مع بداية الألفية الجديدة، حينها بدأت عوائل فلسطينية ممن يُعرفون بـ "فلسطينيّي 48" بالتّردد إلى دمشق لزيارة أقاربهم من اللاجئين، هذه الزيارات التي شاعت في تلك الفترة كانت بتنسيق من عضو الكنيست وقتها الدكتور عزمي بشارة مع الحكومة السورية، للسماح لهذه العائلات بزيارة ذويها من اللاجئين في مخيمات سوريا من دون أن يتمكّن الاحتلال من معرفة أنّها دخلت الأراضي السورية، الأمر الذي جنّبها التعرض للخطر الأمني من قبل الاحتلال بعد عودتها.
أم فؤاد في بيت أهلها في شفاعمرو()

"نحنا بنات محمد حمادة"
لا تزال هذه الكلمات تعود إلى مسامعي في كل لحظة أستعيد صورة جدتي نايفة محمد حمادة (أم فؤاد)، توفيت عام 2003، وهي تردّدها بكلّ عنفوان وفخر، وتخرج من حقيبتها نسخة من مادة صحافية نُشرت في إحدى الصحف العربية المعروفة، تعلوها صورة لوالدها محمد حمادة مختار قرية شفا عمرو وأحد رموزها الوطنية خلال أربعينيات القرن الماضي، وتتحدث عنه كقائد تاريخي للقرية تمكّن هو وأهل قريته من الثبات والتمسك ببيوتهم وأرضهم ورفض مغادرتها رغم كل محاولات العصابات الصهيونية تهجيرهم قبل النكبة وبعدها.
غادرت جدّتي نايفة قريتها شفا عمرو عام 1948 قسراً حاملة على يديها طفليها (ميسر وفؤاد) وتاركةً والدها وأخواتها خلفها، نظراً إلى ملاحقة الانتداب البريطاني والعصابات الصهيونية لزوجها جدي علي ياسين (أبو فؤاد) بسبب نضاله المسلح ضدهما. قرّرت عائلة جدي ضرورة خروجه رفقة زوجته وأولاده من القرية، بعد دخول العصابات الصهيونية إليها حفاظاً على سلامتهم. وبالفعل حمل الزوجان طفليهما واتّجها إلى العاصمة السورية دمشق، تحديداً إلى حي العمارة، حيث سكن الجميع هناك، ورزقا مزيداً من الأطفال، وانتقل الجميع لاحقاً إلى مخيم اليرموك جنوبي دمشق، وأكمل الأبوان هناك بقية عمريهما ينتظران العودة إلى فلسطين. لم تعلم جدتي نايفة أنها ستقضي في هذا المخيم عمرها، وستكبر عائلتها الصغيرة فيه شيئاً فشيئاً، ويصبح لديها عشرات الأحفاد، من دون أن تتحرر البلاد وتعود مجدداً إلى بيت والدها في شفا عمرو.
لعل أصعب ما عاناه الفلسطينيون بعد التهجير عن مدنهم وقراهم، هو التواصل مع من بقوا من أفراد عائلاتهم داخل الأرض المحتلة، فكانت الاتصالات الهاتفية والرسائل البريدية غير متوفرة بين الأراضي المحتلة والدول العربية. لجأ الفلسطينيون بداية، إلى البث الإذاعي، الذي كان يصل إرساله إلى بعض المدن الفلسطينية القريبة. وهكذا فعلت جدتي، فقد زارت في نهاية خمسينيات القرن الماضي إذاعة دمشق في شارع النصر سابقاً، ولاحقاً في ساحة الأمويين في العاصمة السورية، وضمن برنامج «صوت فلسطين» الذي كان يبث يومياً من الساعة الخامسة وحتى السادسة مساءً، وكان مخصّصاً لرسائل اللاجئين إلى أهلهم في الداخل المحتل. جلست جدّتي أمام المايكروفون داخل الإذاعة، وقبل أن تتكلم كان قلبها يطلق العنان بدقات متسارعة يكاد صوتها يصل إلى المستمعين، تمالكت نفسها، واستحضرت صورة والدها محمد حمادة بلباسه العربي وشاربيه المفتولين، لتبدأ كلامها بالتعريف عن نفسها بأنها نايفة بنت محمد حمادة مختار من قرية شفا عمرو، تلته بأنهار من التحيات والأشواق إلى أخواتها وأخويها ووالدها في الأراضي المحتلة، وأخبرتهم أين حلّ بها الحال بعد النكبة، وكم طفلاً أصبح لديها وما هي أعمارهم وأسماؤهم، وأنّها أطلقت على مولودها الجديد اسم والدها، لتنهي رسالتها والدموع تملأ وجهها المحمّر بالقول (طمّنونا عنكم وعن أحوالكم، وإننا لعائدون). باختتام سلامها إلى الأرض المحتلة، كما أخبرتنا نحن أحفادها، اختصرت جدتي تفاصيل قضية شعب، وقصة حق بكل ما تحمله من ألم ومعاناة إنسانية.
لحسن حظ جدّتي أن رسالتها وصلت إلى أفراد عائلتها في الداخل، ليأتي الرد بعد فترة وجيزة وعبر ما يسمى بـ «دار الإذاعة الإسرائيلية» التي كان بثها يصل إلى الدول المحيطة بفلسطين المحتلة، ضمن برنامج «رسائل العرب إلى ذويهم» الذي كان يبث يومياً فترة الظهيرة.
هكذا رسمت جدتي وعائلتها، وعائلات فلسطينية أخرى، شكلاً للتواصل، ظل يجمعهم ولو عبر الأثير.
منذ ستينيات القرن الماضي بدأت جدّتي نايفة (أم فؤاد) محاولاتها الحثيثة في تحقيق جزء من حقها في العودة إلى قريتها شفا عمرو، خاصة بعد معرفتها بأن شقيقها الذي تهجّر خلال النكبة إلى الأراضي اللبنانية، وأمضى بها حوالي العامين من الزمن، تمكّن أخيراً من التسلل عبر الحدود اللبنانية الفلسطينية، والعودة إلى قريته، والاستقرار فيها مجدداً، الأمر الذي أشعل الإصرار لدى جدتي بضرورة العودة إلى قريتها، طالما أن هناك من استطاع العودة.
بادئ الأمر أخذت جدتي تتردد إلى أقاربها المقيمين في لبنان لمعرفة طريقة الدخول إلى الأراضي المحتلة ودراسة إمكانية تحقيق ذلك، إلا أن قلق جدي عليها من مخاطر المحاولة وتبعاتها حال دون تنفيذها. لم تستسلم رغم أن العجز طاول إحدى يديها خلال سنوات النكبة الأولى، وأصرّت على تحقيق عودتها أو جزء منها، فلجأت إلى ذويها الموجودين داخل الأراضي المحتلة لاستصدار تصريح زيارة لها، تدخل بموجبه الأراضي الفلسطينية المحتلة عن طريق الأردن، ورغم فشل المحاولات المتكرّرة على مدى أعوام طويلة من ستينيات القرن الماضي وبداية السبعينيات، إلا أنّها بقيت مصرّة على تحقيق حلمها.
في شهر حزيران 1973، وبينما جدتي جالسة في باحة بيتها العربي البسيط الذي بناه جدي وسط مخيم اليرموك القديم، بعد أن وزعت «الأونروا» قطع أراضٍ على العائلات اللاجئة في منطقة كانت تسمى بساتين الشاغور، يطرق الباب ابن جارتهم أم جهاد سلمان من قرية الطيرة في حيفا، ليقول لجدتي مسرعاً «خالتي أم فؤاد... أخوكِ من فلسطين دق لعنا على التلفون بدو يحكي معك»، وكعادتها، وضعت غطاء رأسها، واتجهت مسرعة إلى بيت جارتها. في تلك المرحلة بدأ اللاجئون الفلسطينيون التواصل مع ذويهم في الأرض المحتلة عن طريق الهاتف، عبر «مقسم» هاتفي أوروبي، يربط الاتصال مع دمشق عبر الكوابل البحرية. حمل الاتصال أنباءً مفرحة، قال شقيقها لها: «حصلنا على تصريح يسمح لك بالدخول إلى فلسطين والقدوم إلى شفا عمرو، تذهبين إلى الأردن، وسوف نرسل لك سيارة إلى هناك لتأخذك وتأتي بك إلى البلد». أغلقت جدّتي سماعة الهاتف، والفرحة ملأتها، وانهمرت دموعها على خديها الورديين. لم تكن جارتها أم جهاد بحاجة إلى استفسار عن سبب الدموع، تعابير جدتي كانت واضحة وأصدق بياناً، فهي وجميع الجارات في الحارة يعرفن حلم جدتي الذي تسعى إليه منذ سنين طويلة.

«ترجعيش خيتا أم فؤاد»
قضت جدّتي الأيام القليلة قبل الرحلة باستقبال نساء المخيم المودّعات والمهنّئات لها بهذا الانتصار، بعدما شاع خبر زيارتها بين أهالي المخيم، حدّثتنا جدّتي أن من أكثر الجمل التي تردّدت على مسامعها من وفود النساء اللواتي جئن لتوديعها «خيتا أم فؤاد ترجعيش خليكي هنيك... هي بلادنا وإن شاء الله نحنا جايين وراكي».
كانت جدتي في كل مرة تقص لنا تفاصيل رحلتها الأولى إلى فلسطين، تتأمل وتقول: «والله لولا جدكم أبو فؤاد والولاد برجعش، وبضل هنيك وغصب عن الصهاينة وأعلى ما بخيلهن يركبوه».
في صباح أحد أيام شهر أيلول من عام 1973، وصلت جدتي أم فؤاد ترافقها والدتي، أصغر أبنائها إلى العاصمة الأردنية التي انتظرت فيها لساعات، حتى وصلت سيارة قادمة من الأراضي المحتلة، وعلى وجه التحديد من شفا عمرو، فأقلّتهما إلى القرية.
كان لقاء جدتي مع بلادها كلقاء العاشق مع حبيبته بعد غياب طويل، أتعب الشوق والهوى كلاً منهما، 25 عاماً من الغياب كانت كفيلة بأن تشعر جدّتي أنها تدخل الجنة، راحت طول مسافة الطريق تقلب ناظريها في تراب بلادها وجبالها وسهولها، أخذت تُشبع عينيها من صور البلاد التي حرمها منها كيان الاحتلال.

جزء من حلم...
حقّقت جدّتي ومعها والدتي بعض حلم العودة إلى فلسطين، تحديداً إلى شفا عمرو، نقطة التقاء جبال الجليل الغربي مع سهوله المطلّة على البحر، الأمر الذي جعل القرية ذات طبيعة ساحرة، إضافة إلى وجود نبع العافية الذي تشتهر فيه.
وللمصادفة، تصادف وجود جدتي وأمي في فلسطين، عندما اندلعت حرب تشرين 1973. حدّثتنا عن أيام الحرب، بأنها كانت كالعرس للفلسطينيين في الداخل، حيث كان الاعتقاد السائد أن هذه الحرب ستضع نهاية للاحتلال الجاثم فوق صدورهم، خاصة أن العرب هذه المرة هم من أخذوا زمام المبادرة وهاجموا، قالت لنا: «عاش الإسرائيليون حالة من الهلع والخوف الشديديْن في الأيام الأولى لحرب تشرين، ظنوا أن الطائرات السورية والمصرية سوف تقصف المدن التي أنشؤوها على أراضينا، ولن تفرق بين هدف مدني وعسكري، وبالطبع كما فعلت عصاباتهم الصهيونية عام 1948 بحق أهالي المدن والقرى الفلسطينية، لدرجة أن بعضاً من الإسرائيليين أخذوا يلجؤون إلى التجمعات والأحياء والقرى ذات الأغلبية العربية لاعتقادهم بأنها ستكون مستثناة من القصف السوري والمصري».

الزيارة الثانية
بعد سبع سنوات تقريباً، عام 1980، استقلت جدّتي مرة أخرى حافلة متجهة إلى الأردن، لتبدأ ثانية رحلات عودتها إلى فلسطين مصطحبة معها هذه المرة إضافة إلى والدتي (14 عاماً)، حفيدها الوحيد الذي لم يتجاوز عمره الـ 6 أعوام. ربما كانت جدتي مؤمنة بضرورة نقل القضية إلى الأجيال الجديدة وأنها يجب أن تُطلع الصغار على وطنهم.
زيارتها هذه امتدت لحوالي الثلاثة أشهر، تمكّنت خلالها من زيارة العديد من القرى والمدن الفلسطينية المحتلة عام 1948، زارت القدس، وبحر حيفا، وجبال صفد، وتلال صفورية، وصولاً إلى ينابيع الحمّة السورية الساخنة في الجولان المحتل، وجلست على ضفاف بحيرة طبريا رفقة ابنتها وحفيدها في المكان ذاته الذي جلست عليه في الماضي مع صديقاتها في مدرسة راهبات الناصرة في شفا عمرو التي التحقت بها في طفولتها المبكرة قبل النكبة.

الزيارة الأخيرة
شهد عام 1998 زيارة جدتي الأخيرة إلى شفا عمرو، رغم تقدمها في العمر وتراجع وضعها الصحي ومشقّة السفر عليها، إلا أنّها أصرّت على هذه الزيارة، وبالفعل رتّبت الأمور مع أولاد أشقائها وشقيقاتها للحصول على التصريح من قبل سلطة الأمر الواقع (الاحتلال)، وذهبت في رحلتها، إلا أنها لم تدرك أنها المرّة الأخيرة التي سترى فيها بلادها، أو ربما أدركت ولم ترد إخبارنا، ربما راودها الخجل من أن العمر مضى ونصرها لم يزل ناقصاً، فلا فلسطين تحرّرت ولا أولادها عادوا ليسكنوا معها في بيتها الذي تركه لها والدها في شفا عمرو، فلم تكتمل عناصر حلم رافقها عمراً كاملاً، حلم كانت تزينه كل يوم بألوان حبّها وفخرها وانتمائها إلى بلدها، وصنعت أملاً بأنّه قريب، متنكرة لما يدور حولها من أحداث، ومتغيرات سياسية، لم تترك قضية اللاجئين أولوية.
ربما شعرت أن الحلم لن يكتمل في حياتها، إلا أنّها كانت حريصة على نقله إلى أحفادها، سردت علينا الكثير من القصص الشعبية والحكايات الفلسطينية بلهجتها الأصيلة، التي لم تستطع السنون الطويلة والابتعاد عن البلاد كسر جمالية حدّتها وقوّتها. عرّفتنا إلى فلسطين وشفا عمرو وحيفا، وعرّفتنا إلى الحياة في البلاد قبل وجود الكيان. رسمت بالكلام لوحات عن زياراتها للبلاد التي خرجت منها شابة يافعة، وعادت إليها سيدة مع أحفاد، تحت مسمى «زائرة» وبـ«تصريح» لعين موقع من قبل مستوطن إسرائيلي لا يمت ولا يشبه الأرض، «منح» جدتي تصريحاً لدخولها أرضها، وهي ابنة هذه الأرض.
قضت جدتي أعوامها الأخيرة تحمل في حقيبة يدها التي لم تفارقها أبداً، «ألبوم صور» جمعت فيه كل صورها خلال رحلاتها المتكررة إلى البلاد، تلك التي جمعتها مع إخوتها وأبنائهم في شفا عمرو، ولبيتها وبيت والدها. ظلت محتفظة بحقيبتها الجلدية الكبيرة التي أصبحت في مرحلة ما ثقيلة عليها مع التقدم في السن وتراجع وضعها الصحي، إلا أنّها أصرّت على عدم استبدالها بواحدة أصغر، كي يبقى ألبوم صورها إلى جانبها أينما ذهبت، كي تفتحه كلما أرادت، وكم وكم أرادت.