… وفي يوم الأربعاء 9 صفر 656هـ المُوافق 14 شباط 1258، اجتاح المغول عاصمة الخلافة العباسية في بغداد، فقتلوا ونهبوا، وأشعلوا النيران في المكتبة التي كانت من أعظم دور العلم لخمسة قرون متتالية، - هي دار حوَت عصارة فكر العرب والمسلمين، إلى جانب الترجمات المختلفة لشتّى العلوم -، وجعلوا ما تبقى من الكتب جسراً يربط اليابسة بنهر دجلة.
وقبل أزيَد من عشرين عاماً على سقوط خلافة العباسيين ببغداد، وتحديداً أثناء سقوط قرطبة عاصمة خلافة الأمويين بالأندلس، في شوال سنة 633 هـ، الذي يوافق حزيران 1236، أحرق الفرنجة «المكتبة الأموية»، وفيها من الكتب والمخطوطات والنوادر، ما بُذل فيه الجهد العظيم، إذ اختزنت من المعارف وأنواع العلوم والفنون المختلفة، ما جعل الأندلس حاضرة الدنيا في ذلك الوقت. وكذا فَعل الفرنجة في مكتبة غرناطة عند سقوطها، حتى قيل إنهم أحرقوا مليون كتاب في أحد الميادين العامة.
ما أشبه اليوم بالأمس. بعد أن طوت القرون ما طوت من أحداث جسام، وحاكَم التاريخ الغزاة على ما أحدثوا من إجرام، جاء الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، فسلك مسلك من سبقه من المحتلين وأشباههم وأضرابهم، وقرر أن يغتال الفكر والأفهام، وهذا مذهب العاجز لا ريب، وإن ظنّ العكس، على اعتبار أن هدم أسس الحضارة الإنسانية لشعب وأمة، ليس إلا خيار الضعيف عن مواجهة الفكر بالفكر، والحجة بالحجة، والدليل بالدليل.
رأس الاحتلال لم يحتمل صمود الرواية الوطنية أمام محاولات التغييب، نتيجة ما وصل إليه الإنسان الفلسطيني، من تفوق وتقدم وتمكُّن ورسوخ في العلم والمعرفة والثقافة، لذا قرر الكيان أن يهدم شيئاً فشيئاً، الهيكل التعليمي والتربوي، وكل مقومات الإبداع والنهوض والمواجهة، وانطلق في مسعاه هذا بخطوات متتابعة، على رأسها السعي الدؤوب إلى «أسرلة» المناهج في الداخل المحتل ومدينة القدس، بالتوازي مع التضييق المستمر على الجامعات في الضفة الغربية، عبر اقتحام أحرامها، وترهيب الأطر الطالبية واعتقال أفرادها، والاعتداء على المدارس وانتهاكها، وتعطيل الدراسة غير مرة، بسبب الاعتداءات المتواصلة على المدن والبلدات.
وقد توّج الاحتلال جريمته بحق العقل الفلسطيني، خلال العدوان على قطاع غزة. ومن جملة ما أحدثت يد الإرهاب الإسرائيلية، تدمير الجامعات والمدارس والمعاهد، واغتيال أكثر من 100 عالم وأكاديمي وأستاذ جامعي وباحث، وحرق المكتبات واستهداف الأرشيفات بما حوت من إنتاجات ومحفوظات ومراجع، منها مكتبة «جامعة الأقصى»، والمتحف الآثاري في «جامعة الإسراء»، حتى بلغ مجموع ما دمرته آلة القتل، 103 جامعات ومدارس بشكل كلي، و311 جامعة ومدرسة بشكل جزئي، وفقاً لإحصاء المكتب الإعلامي الحكومي في غزة في منتصف الشهر الماضي.
مخطئ من يظن أن الهجمة الإسرائيلية على القطاع التعليمي ومؤسساته في فلسطين، لا تعدو كونها مجرد ردة فعل فردية، بل هي في حقيقة الأمر، سياسة ممنهجة يرعاها المستوى السياسي في إسرائيل، ويوجه عبرها الذراع العسكرية والأمنية، كي تتكفل بالجانب التطبيقي، في ظل غياب الرادع العربي والدولي، وانعدام الوازع الأخلاقي والقيمي عند الاحتلال، في المواجهة القائمة معه منذ زمن طويل.
هذا التطرف المنفلت من عقاله، هو ديدن المحتلين الطامعين على مر العصور، الذين كلما أرادوا السيطرة على شعب والتحكم فيه، انتهجوا سياسة «التجهيل». غير أن الاحتلال الإسرائيلي، لم يتعلم ربما بعد أكثر من سبعة عقود على الصراع، أن الشعب الفلسطيني كان دوماً الأقدر على التكيف مع الأزمات، واجتراح الحلول للملمّات، وصناعة الأقدار من المستحيلات.
لكن وبالنظر إلى حجم الدمار المدروس المنظم هذه المرة في قطاع غزة، وطول أمد الحرب، يبدو واضحاً أن العام الدراسي انتهى فعلياً، وبالتالي لن يكون عشرات آلاف الطلاب الفلسطينيين، قادرين على تلقي تعليمهم. علماً أن التعليم حق يكفله القانون الدولي والإنساني، والحرمان المقصود منه، يصنَّف ضمن الانتهاكات الجسيمة، التي ترقى إلى مستوى جرائم الحرب.