تعيش في ذاكرة الفلسطينيين الكثير من محطات الخذلان العربي منذ ما قبل نكبة عام 1948. ويمكن القول بأن اتفاقية «كامب ديفيد» في عام 1978، من أبرز تلك المحطات التي أخرجت أكبر دولة عربية من دائرة الصراع والمواجهة مع الاحتلال.ويزداد الوضع العربي اليوم سوءاً إلى درجة قيام البعض بلوم الضحية والتعاطف مع القتلة خلال حرب الإبادة على غزة، التي فتحت الأبواب على مصراعيها عن ذكريات وأحداث وشخصيات، يشعر أهل غزة ببالغ الحزن والأسى لغيابها، ومن تلك الشخصيات العميد مصطفى حافظ، رئيس مكتب فلسطين في جهاز المخابرات العامة المصرية، الذي كانت له تجربة فذّة، في قطاع غزة خلال فترة الخمسينيات من القرن الماضي.
وبما أن فلسطين هي ذاكرة شخصية أيضاً، حافلة بالقصص والصور والتجارب، ومنها تجربة مصطفى حافظ مؤسس العمل الفدائي الفلسطيني في قطاع غزة، وقائد «الكتيبة 141 فدائيون» بين عامي 1954-1956، وقد تشكّلت برئاسته، وفعلياً أرعبت الإسرائيليين بعملياتها الفدائية، فضلاً عن دورها في مجال التدريب والمراقبة والاستطلاع داخل الأراضي المحتلة عام 1948، إضافة إلى إنشاء معسكرين للتدريب، في قطاع غزة. فبعد معسكر الجيزة، افتتح حافظ معسكرين في كل من خان يونس ورفح. كما قامت مصر في تلك الفترة بفتح معسكرات التدريب التابعة للحرس الوطني في القاهرة، لتدريب الشباب الفلسطيني على القتال، بشرط أن من يرغب بالالتحاق بمعسكرات التدريب، يجب أن يكون على معرفة بالأرض والطرقات داخل فلسطين، وأن يكون ملمّاً بالقراءة والكتابة، والأفضلية لمن يجيد اللغة العبرية، وبذلك وصل عدد الفدائيين إلى ألف فدائي مسلح ومدرب.
وقد بدأت التجربة المصرية عبر «الكتيبة 141 فدائيون» في 22 آب 1955، بموجة أولى من العمليات الفدائية، وكانت هذه العمليات لمجموعات لا يتجاوز أفرادها الأربعة، تنفذ عملياتها وتعود إلى القطاع، وقد وصل عدد عمليات الموجة الأولى لأكثر من 180 عملية نفذت خلال الفترة الممتدة حتى آذار 1956.
أما موجة العمليات الثانية، فكانت بين 8 نيسان 1956 وآب 1956، وهي رد على قصف إسرائيل لوسط مدينة غزة، وقد تطورت هذه العمليات، ووصلت إلى عمق 18 كم ضمن الأراضي المحتلة في «الخط الأخضر».
أما الموجة الثالثة من العمليات، فكانت رداً على هجوم إسرائيلي على خان يونس ليلة 30 آب 1956، أسفر عن استشهاد 36 فدائياً وجرح 50. الرد جاء تصعيدياً، فنُفذت خلاله عمليات كبيرة داخل الأراضي المحتلة عام 1948، وتشير بعض المصادر إلى أن عدد الفدائيين الذين اقتحموا في ليلة واحدة تجاوز الـ 200.
بينما كان يحدث هذا الأمر في قطاع غزة من خلال المصريين، كان مصطفى حافظ الذي أسّس لهذا العمل الفدائي، ينسق الجهود مع الفدائيين الفلسطينيين على الجبهة السورية، من خلال الملحق العسكري بالسفارة المصرية في الأردن، وقد أدى هذا التنسيق إلى التطور في حجم العمليات التي ينفذها الفدائيون العاملون مع مصطفى حافظ، وهو الذي كان يذهب من مقر إقامته في حي الرمال إلى مكتب مختار خان يونس، حيث يتجمّع الراغبون بالتطوع، فيختار المناسب منهم. كما أنه زار سجن غزة المركزي والتقى مع المساجين، خاصة المتهمين بالتسلل واجتياز الحدود، وضمّهم إلى الكتيبة التي دفع نجاحها الإسرائيليين وخاصة أرييل شارون للقيام بعدة محاولات اغتيال لمصطفى حافظ، وقد رصدت المخابرات الإسرائيلية مبالغ مالية ضخمة لمن يوصلها إليه، وكانت أولى محاولات الاغتيال التي نفّذها أرييل شارون بهجوم على منزل مصطفى حافظ في غزة، لكنه لم يكن موجوداً فيه، فقام شارون بتفجير المنزل وأخذ صورة أمامه، ثم عاد وشن هجوماً من البحر، ففشل، وتم توبيخه من ديفيد بن غوريون وموشيه دايان.
في 29 نيسان 1956، تمكّن الفدائيون من قتل الملازم الشاب في الجيش الاسرائيلي روي روتبيرغ، وخلال دفنه، أعطى دايان، وقد كان يترأس أركان جيش الاحتلال، أوامره لاغتيال ضابطين مصريين، أحدهما مصطفى حافظ، وأحيل ملف الاغتيال إلى جهاز «الموساد» لتنفيذ الاغتيال، مع الأخذ في الاعتبار قدرات حافظ الاستثنائية على التخفي وأخذ الاحتياطات بأعصاب حديدية، وأنه يحظى بمحبة وتقدير الناس الذين هتفوا أثناء زيارة الرئيس جمال عبد الناصر لغزة «يعيش جمال عبد الناصر» و«يعيش مصطفى حافظ».
وقيل الكثير عن عملية اغتياله، ودور العميل المزدوج، ومن أبرز تلك الأقاويل ما قاله الضابط السابق في المخابرات الإسرائيلية مردخاي شارون، وهو أحد تلامذة الحاخام نتان ميليكسبسكي جد بنيامين نتنياهو، بأنه أهدى عميلاً مزدوجاً كتاب «كفاحي» لهتلر، وفي داخله شيفرة يجب أن تصل إلى شخص محدد في غزة، لكن العميل المزدوج أوصله إلى مصطفى حافظ، وحين فتحه انفجر به، وتم نقله إلى المستشفى المعمداني، حيث عاش لساعات، قبل أن يستشهد وينعاه الرئيس جمال عبد الناصر أثناء خطاب إعلان تأميم قناة السويس حين قال: «لقد اغتيل اليوم مصطفى حافظ، بأخس أنواع الغدر وأخس أنواع الخداع، ويعتقدون بقتل مصطفى حافظ بأنهم لن يجدوا من يحل محل مصطفى حافظ؟ إنهم سيجدون في مصر وبين ربوع مصر، جميع المصريين، كل واحد منهم يحمل هذه المبادئ ويؤمن بها وبالمثل العليا».
وبعد استشهاد مصطفى حافظ أُطلق اسمه على عدد من الميادين والمدارس في القاهرة والإسكندرية وقطاع غزة. وما زالت ذكراه طازجة ودافئة في قلوب الفلسطينيين، وحاضرة في يوميات الحرب على غزة، وما يحيط بها من صمت وخذلان، ومجازر تُرتكب وتُنقل إلى المتفرجين العرب على الهواء مباشرة، وغزة المحاصرة بالنار والدمار لم تعد تسأل أين العرب، وأين حكامهم وجيوشهم وسيوفهم ونفطهم وأسلحتهم. وغزة لن تنسى، وهي تتذكّر ببكاء مالح هذه التجربة وهذه الشخصية الخالدة في أعين المقاومين، وحكايات وأحلام الناس الطيبين في مصر وغزة وكل فلسطين، سيرة مصطفى حافظ التي بات حضورها أكثر من ضروري كي يكون لنا مستقبل في عالم لا يحترم المتخاذلين.