حراس الحقيقة، حماة الصورة، الحافظون للمشهد، والمدافعون عن أمانة النقل. كلها مترادفات لعنوان واحد: الصحافيون العاملون في قطاع غزة، هؤلاء الذين نذروا أنفسهم، خدمة للمبادئ التي قامت عليها مهنتهم، ها هم اليوم يقدمون أرواحهم، وسلامتهم، وأغلى ما يملكون، على مذبح المهنية والموضوعية. مبادئ يخشاها الاحتلال الذي يريد أن تظل يد إجرامه مطلقة، دون عين فاضحة وكلمة كاشفة.في بدايات الصراع وعقوده الأولى، مارس الاحتلال بأريحية تامة أفظع صنوف الإرهاب والإبادة والعنصرية، نظراً إلى ضعف الصورة وقتذاك وضآلة تأثيرها. ومع تطور الإعلام، وتحوله إلى سلاح فعال ومحوري، لا يقل أهمية عن المدفع والرشاش، تضاعفت الخشية منه، إلى حدّ تطرّف فيه الكيان الإسرائيلي في مواجهة الكاميرا، وحاملها، والواقف أمامها، وهذا ما بدا ماثلاً في غزة، بكيفية تغني عن الشرح.
ومع موت العالَم الذي يدّعي الحرية، سريريّاً، لم يحُل القانون الدولي دون استشهاد عشرات الصحافيين في القطاع المنكوب، ولم يمنحهم الحصانة، وهم يؤدون دورهم الطبيعي على جبهة الشعب الفلسطيني المضطهد. الإدانات الصّورية، على كثرتها، كانت أضعف من أن تمنع تل أبيب من استهداف الطواقم الإعلامية بشكل ممنهج. بل على العكس، فتحت شهية الجيش الإسرائيلي لقتل المزيد، استناداً إلى التلهّي الغربي باستحضار المراثي على المستوطنين، في تناقض يدعو إلى العجب.
من هنا، لم تكفّ اليد الإسرائيلية المغمّسة بالدم عن منازلة العمل الإعلامي في حلبة صراع غير عادلة، ولا متكافئة بالطبع، نظراً إلى الفارق الشاسع بين القوة الغاشمة والقوة الناعمة، حتى بات واضحاً أن مساعي اغتيال الصورة في مهدها، واستئصال العين العاكسة للمشهد الفعلي، كانت تشبع رغبة الانتقام التي قامت عليها إسرائيل، وجعلت منها مسلكاً لتصفية الحسابات مع أي صوت مخالف.
وليس خافياً أن جبهة المقاومة بالكلمة فضحت ممارسات الاحتلال، وحشرته في الزاوية، ووضعته في محلّ التهمة، وأفقدته خاصية الإنكار ومبرر الاعتداء. النتيجة أَوصل إليها، بطبيعة الحال، تمسّكُ الصحافيين بعقيدتهم، وثباتهم على موقفهم، واستعدادهم للتضحية الكاملة. بيدَ أن الالتزام الإعلامي في الحروب دونه الكثير من الأثمان، وهذا ما يفسر استشهاد أكثر من 119 صحافياً في غزة منذ بدء العدوان، ذنبهم الوحيد مخاطبةُ العالم بلسان الصدق.
وفي حاشية بسيطة على المتن، فقد جانَب الصوابُ غالباً المذهب القائل: إن العين لا تقاوم المخرز. في فلسطين، أثبتت التجربة الإعلامية أن العين تقاوم أعتى قوة في الشرق الأوسط، وتهزمها، وتعرّيها. وقد تجلّى ذلك، في القرائن التي تكفّل الإعلام بتظهيرها، على المنابر الدولية وسواها، فضلاً عن مساهمة الصورة القادمة من غزة في تأليب الرأي العام العالمي ضد الاحتلال، وحشد التأييد للقضية الفلسطينية، بشهادة الميادين والشوارع التي غصّت بالمتظاهرين، على امتداد الحواضر في العالم.
المعركة اليوم معركة صورة، كما هي معركة ميدان. يستشهد الصحافي، لكن صورته تُخلّد في الضمير الإنساني الحيّ، في مواجهة احتلال قائم بالقوة والجبر، يَعلم في قرارة نفسه أن يوم الحساب آتٍ لا محالة. مثله كمثل المجرم الذي يجهد لمحو دليل إدانته، ثم عندما يفشل يجد نفسه مضطراً إلى تبرير أفعاله باختلاق صورة مزيّفة، لا يتأخر الوقت حتى يُفتضح أمره، الأمر الذي يعمّق من أزماته، ويُظهر عجزه أمام عدسة صادقة، يتسلّح بها الإعلاميون.
وبينما فشلت وسائل الإعلام العبرية في مجاراتهم، نظراً إلى زيف الرواية الإسرائيلية، صمد الصحافيون في قطاع غزة، ليثبتوا أنهم شريان الصراع القائم، وحجر الزاوية في حرب الدليل المادي، بعدما جمعوا من الإثباتات الموثّقة ما يكفي لمحو صورة الإنسانية التي يدّعيها الكيان الإسرائيلي، وتكذيب حديثه الممجوج عن المظلومية.