منذ انطلاق معركة «طوفان الأقصى» في السابع من تشرين الأول الماضي، حرص قادة الاحتلال الإسرائيلي، ومنذ الساعات الأولى أن يصوّروا العدوان الذي يخوضه الكيان ضد قطاع غزة تحت عنوان «الحضارة» في مواجهة «البربرية»، كما حرصوا على تشبيه المقاومة الفلسطينية بـ«داعش»، فضلاً عن استحضار «الهولوكوست» كذاكرة جماعية دولية في سبيل اجترار العطف الدولي للتبرير والتمهيد لما سيقوم به الاحتلال نفسه بحق الأهالي في قطاع غزة. وفي متابعة لأول تصريحات رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو خلال حديث هاتفي مع الرئيس الأميركي جو بايدن، قام باستحضار تلك المفاهيم المزيّفة بالقول: «إنّنا تعرّضنا لهجوم يوم السبت لم نشهد وحشيته منذ المحرقة» وأضاف في الاتصال ذاته: «لقد أخذوا عشرات الأطفال وربطوهم ثم أحرقوهم… إنهم أسوأ من تنظيم الدولة». لاحقاً وفي خطاب آخر في 25 تشرين الأول الماضي، قال نتنياهو: «نحن أبناء النور بينما هم  أبناء الظلام، وسينتصر النور على الظلام»، وفي مرة أخرى قال: «إنه صراع بين أبناء النور وأبناء الظلام. وبين الإنسانية والوحشية».
لقد تماهى الإعلام الغربي، مع هذا الخطاب بتفصيلاته المخترعة، إلى أن بدأ يتكشف أول فصول كذب الاحتلال، عبر ما نشرته صحيفة «هآرتس» أخيراً، حول تحقيق للشرطة الإسرائيلية أظهر أن طائرة حربية إسرائيلية قصفت احتفالاً بغلاف غزة، أسفر عن مقتل 364 مستوطناً يوم السابع من أكتوبر، وهذا يوضح وجود الجثث المتفحّمة.


وكان من اللافت جداً، ما نشرته بعض المواقع الإسرائيلية، ولا سيما الناطقة باللغة الإنكليزية، وبلغات أخرى، من أكاذيب وتزييف للحقائق، فمثلاً كتبت يافيت آلت ميللر وهي باحثة يهودية تعيش في شيكاغو في الولايات المتحدة الأميركية، في موقع «aish» تحت عنوان «أكاذيب حول حرب إسرائيل مع حماس»، خمسة أمور متداولة إعلامياً حول إسرائيل وقطاع غزة والحرب فيها، وفنّدت كل واحدة من هذه الكذبات، بمجموعة من الأكاذيب والتوضيحات المخادعة، وهذه الأمور الخمسة، هي:
«إسرائيل تسعى للانتقام من غزة، إسرائيل تحكم غزة، غزة سجن في الهواء الطلق، غزة فقيرة بسبب إسرائيل، إسرائيل ترتكب جرائم حرب في غزة».
قلبت هذه الكاتبة الحقائق رأساً على عقب، وحمّلت تبعات ومسؤولية الحصار والفقر وكل شيء في القطاع، للفلسطينيين والمقاومة، وبرّأت ساحة الكيان من أي مسؤولية عن الجرائم المرتكبة. كما وصلت في خلاصتها بالتوجه إلى الجمهور في الولايات المتحدة والغرب عموماً، بوجوب استقاء المعلومات حصراً من المواقع الإسرائيلية، فقالت: «اقرأ من مصادر الأخبار ذات السمعة الطيبة، بما في ذلك الأخبار باللغة الإنكليزية من إسرائيل».
المقاومة تقدّم نموذج التعامل الإنساني مع الأسرى
منذ اللحظات الأولى التي وقع فيها المستوطنون في الأسر، ميّزت المقاومة بين من هو «مستوطن مدني غير عسكري» ومن هو «مستوطن عسكري»، وبين «مستوطن من حملة الجوازات الأجنبية»، و«مستوطن إسرائيلي الجنسية». وطرحت لاحقاً التفاوض حول الأسرى، إما جزئياً، أو «الكل بالكل» أي تبييض سجون الاحتلال من الأسرى الفلسطينيين، إلا أن الكابينت المصغّر، قرّر ألا يستجيب لهذا الطرح، وخاض الاجتياح البري، تحت عناوين ثلاثة، القضاء على المقاومة، وإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة، وتغيير نظام الحكم في غزة. وبعد محاولات فاشلة امتدت لأكثر من أسبوعين، مني خلالها بخسائر في صفوف جنوده ودبابته، ولم يصل إلى أي أسير إسرائيلي، أو القضاء على المقاومة، رضخ في النهاية لصفقة تبادل.
وكانت المقاومة قبل ذلك قد قامت بمبادرة إنسانية عبر إطلاق سراح امرأة وطفليها، وكذلك مسنّتين، وكان من المفترض أن يتحدث هؤلاء بما ينتظره نتنياهو تصديقاً لروايته المزعومة حول «البربرية» و«الداعشية»، فلم يستطع الإعلام العبري في محاولته الأولى مع المرأة أن يسجل أي موقف يدين المقاومة الفلسطينية بسوء المعاملة. أما المحاولة الثانية فكانت مع إحدى النساء المسنّات والتي أحدثت سجالاً كبيراً، ودوياً أشبه بالفضيحة لرواية الاحتلال، فقد صرّحت المسنّة ليفشيتس، وهي من مستوطنة نير عوز، بالقول: «لقد تعاملوا معنا بودّ وعناية، ووفّروا لنا الطعام والدواء، وأحضروا لنا طبيباً لفحصنا ومضمّداً لمتابعة وضعنا الصحي ومعالجة من أصيب منا بجراح»، هذا فضلاً عن أن كاميرات التصوير سجّلت التسليم باليد من قبلها على عنصر القسام قبيل تسليمها للصليب الأحمر الدولي، ما استدعى من «الكابينت» أن يتخذ قراراً بمنع أي لقاء صحافي مع أي أسير يُطلق سراحه.
وحتى كتابة هذه السطور، والتي شهدنا فيها إطلاق عدة دفعات من الأسرى، سُجّلت إشارات كثيرة استطاعت المقاومة الفلسطينية بذكاء أن ترسل من خلالها رسالة إلى العالم حول كيفية تعاملها مع الأسرى. فالأسرى بصحة جيدة، ويمشون على أقدامهم، ويرسلون إشارات التحية إلى المقاومين قبيل المغادرة، وصولاً إلى مغادرة إحدى الشابات الأسيرات مع كلبها، ومحاولة مساعدتها في حمله. أما الرسالة الأقوى فكانت عبر الرسالة التي كتبتها الأسيرة دانييل ألوني، والتي انتشرت عبر العالم «أشكركم من أعماق قلبي على إنسانيتكم غير الطبيعية التي أظهرتموها تجاه ابنتي إيمليا، كنتم لها مثل الأبوين (...) أنا للأبد سأكون أسيرة شكر لأنها لم تخرج من هنا بصدمة نفسية للأبد، سأذكر لكم تصرفكم الطيّب هنا بالرغم من الوضع الصعب الذي كنتم تتعاملون معه بأنفسكم والخسائر الصعبة التي أصابتكم في غزة».

الاحتلال يمارس أبشع الأساليب مع الأسرى
سعى الاحتلال منذ بداية عملية «طوفان الأقصى» إلى الانتقام من الأسرى بكل الأساليب، لعلمه أن صفقة ستجري عاجلاً أو آجلاً، فصادر كل مقتنيات الأسرى، وقطع عنهم وسائل الإعلام في محاولة لمنع الأسرى من معرفة ما يجري في الخارج، وخفّف وجبات الطعام حتى التجويع، ومنع الأسرى من الخروج إلى الفورة، والاستحمام، إضافة إلى الضرب المبرح.
ولقد صرّح العديد من الأسرى المُفرج عنهم، عن ممارسات الاحتلال القمعية والإجرامية بحقهم، فقالت الأسيرة المحرّرة مرح باكير: «ظلت [إدارة مصلحة السجون] تمارس الإذلال حتى آخر لحظة، من فترة الحرب، تخطوا كل الخطوط الحمر، ضربوا الأسيرات ورشّوهن بالغاز، وصادروا حتى الأشياء الخاصة(...) يتدخلون في خصوصيتنا، ضربوني وحاولوا خلع حجابي وملابس الصلاة(...) وضعوا لي كاميرات في الغرفة تكشف حتى المرحاض».
أما الأسير المقدسي رمزي العباس، فقد كشف عن ممارسات مروّعة بحق الأسرى «هناك وجبات ضرب صباحاً، وظهراً، ومساء، ضرب على كل أنحاء الجسم» وتابع أن نحو 3 آلاف أسير في سجن النقب «منهم من كُسرت رجله أو يده أو فُتح رأسه (جرح عميق)، هم نفسياً وجسدياً ومعنوياً في حالة يرثى لها». مضيفاً أن «هناك تحرشاً جنسياً بالمعتقلين ترقى إلى حد الاغتصاب دون مبالغة، شتم 24 ساعة، تمزيق للمصحف، وتبوّل عليه».
أما الممارسات التي اتُّبعت قبيل إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين، فلقد بدأت لدى الأهالي عبر قمعهم أمام سجن عوفر بانتظار خروج أبنائهم، وصولاً إلى اقتحام بيوت الأسرى، خصوصاً في القدس، وتحذيرهم من أي مظاهر احتفالية، وحتى مصادرة الحلويات، هذا فضلاً عن عدم تبليغ الأسرى بإطلاق سراحهم من السجن إلا قبل دقائق، وعدم إعطائهم إلا خمس دقائق لجمع أغراضهم، وصولاً إلى ضربهم قبل ركوبهم الباص الخاص بالصليب الأحمر الدولي.
ولقد منيت كل محاولات الاحتلال بالفشل في منع الاحتفالات، وتوجيه التحية إلى المقاومة التي كان لها الفضل بعد تضحيات الشعب في غزة بخروجهم، وصدحت الحناجر «روّحت الحرة على الدار، يديم عزك يا سنوار»، «حط السيف قبال السيف، نحن رجال محمد ضيف»، وغيرها من المظاهر، كرفع أعلام المقاومة، لـ«القسام» و«سرايا القدس».
لقد ربحت المقاومة معركة الصورة بجدارة، ووصلت رسائل وصور الأسرى الفلسطينيين المحررين، والمستوطنين المُفرج عنهم من المقاومة، إلى كل العالم، فهل من مجيب؟