لم يتوقف المثقف الفلسطيني عن الإبداع يوماً، ولم ينتهِ به المطاف ندّاباً على الحال الذي آلت إليه أوضاع فلسطين وقضيتها، ولا ندّاباً لما آل إليه وضع المثقف الفلسطيني، بعد غياب أو انحسار وجود المؤسسة الثقافية الفلسطينية، الأمر الذي انعكس سلباً في كل أماكن وجود الفلسطينيين.وفي سوريا تحديداً، وبعد الذي جرى على مرّ سنوات الحرب فيها، تشتّت المثقف والمبدع الفلسطيني فوق شتاته، إما سفراً وهجرة، وإما نزوحاً. وبعد أن حطّت الحرب بعض أوزارها، عاد المثقف الفلسطيني في سوريا إلى أسئلة طالما أرّقت الفلسطيني، عن مكانته في المشهد الثقافي الفلسطيني، ومكانه في فعل المؤسسة الغائب، ودوره التعويضي أمام شعب يطمح بالعودة إلى بلاده.
في محاولة للإجابة والإحاطة ببعض هواجس المثقف والمبدع الفلسطيني في سوريا، أجرينا ثلاث مقابلات مع ثلاثة مبدعين في مجالات فنية مختلفة.
(زيناتي قدسية)

زيناتي قدسية: تجربة المسرح الفلسطيني في سوريا انتهت
زيناتي قدسية مسرحي عربي فلسطيني كما يحب أن يعرّف عن نفسه، استطاع أن يوجد بصمته الخاصة في المسرح العربي، بصمة امتلأت بفلسطين وقضيتها وهموم شعبها، يلخّص قدسية تجربة مسرحية عريقة، تمتد إلى أكثر من نصف قرن، قدّم وأخرج خلالها مئات الأعمال المسرحية والدرامية، حقّق بعضها شهرة واسعة لدى الجمهور العربي.
لا يذكر قدسية تفاصيل دخوله إلى فرقة المسرح الفلسطيني، إلا أنه يتذكّر جيداً أنه عام 1972 أصبح عضواً ضمن الفرقة التي كان مقرها مقابل مسرح القباني العريق في دمشق، «عندما دخلت إلى الفرقة كان أعضاء فريقها يطبعون نصاً سيبدؤون العمل عليه يحمل عنوان "النار والزيتون" للكاتب المصري ألفريد فرج، ولم يسند المخرج إليّ أي دور في هذا العمل، ما أثار استغرابي، وأنا القادم من فرقة المسرح الجامعي المركزية، حيث كان اسمي لافتاً في فرقة المسرح الجامعي على مستوى الطلاب وعلى مستوى جمهور دمشق».
انتهى عرض «النار والزيتون» وأخذت الفرقة تجهّز لعرض جديد بعد اعتمادها نصاً بعنوان «الكرسي» مأخوذاً من من المسرحية الشعرية «العصافير تبني أعشاشها بين الأصابع» للشاعر والكاتب الفلسطيني معين بسيسو، لم ينل قدسية دوراً في هذا العمل أيضاً، يقول لـ«الأخبار»: «بدأت أتساءل، ما الذي أفعله في الفرقة إذاً، لم أساهم في تقديم العروض مع زملائي عبر أي دور ومهما كان حجمه؟».
استمر هذا الوضع حتى عام 1974، حين جاء إلى الفرقة في مطلع هذا العام المخرج الفلسطيني حسين الأسمر قادماً من القاهرة، وكان حديث التخرّج، يقول قدسية عنه: «كان شاباً متحمّساً واعياً وموهوباً، وقرّر إخراج عمل للكاتب البولوني سلافومير مروجيك يحمل عنوان "التعرية" مكون من شخصيتين رئيسيتين، أسند إلي إحداهما ولعب هو الشخصية الأخرى».
قدّمت الفرقة مسرحية «التعرية» في مخيم اليرموك في دمشق، وجالت عروضها في عدة مخيمات أخرى في المحافظات السورية، «هذا الفريق كله كان مكوّناً من حوالي 12 إلى 13 ممثلاً، ومعظمهم كانوا أعضاء في حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" من دوني طبعاً، لذلك كنت أشعر بغربة تجتاحني لأنني لم أكن عضواً في "فتح" في ذلك الوقت، ومرّت عليّ بعض اللحظات، كنت أحسّ فيها وكأنني نبت شيطاني بينهم مع أنهم كانوا زملاء ودودين ولطيفين لكنّ مسألة الانتماء هذه كانت لها حسابات عند الآخرين».
في الأعوام اللاحقة جاء مخرجون آخرون إلى فرقة المسرح الفلسطيني أكملوا الطريق، منهم وليد قوتلي وحسن عويتي وغيرهما، وكل واحد منهم كان يتبنّى «اليتيم» الذي يُسمى المسرح الفلسطيني كما يصفه قدسية، وينجز العمل الذي اختاره كنص بالطريقة التي يرتئيها، ويعمل أعضاء الفرقة وفق إرادة ورؤية المخرجين.
في أواسط السبعينيات وما بعدها، بدأ المخرجون الاهتمام أكثر فأكثر بموهبة قدسية، فأسند إليه المخرج حسن عويتي دوراً أولَ في مسرحية مأخوذة عن رواية المصري صنع الله إبراهيم «حدث في مصر الآن» والتي عمل على إعدادها المرحوم الأستاذ ممدوح عدوان، كما لعب قدسية دوراً أولَ في مسرحية «لكع بن لكع» الشهيرة للروائي الفلسطيني إميل حبيبي، والتي أخرجها وليد قوتلي. يصف المسرحي الفلسطيني تلك الفترة فيقول: «استمرت هذه المرحلة على هذا الشكل، وكان هناك ترحيب كبير بهذه العروض التي تشكل مرحلة ثانية من مسيرة فرقة المسرح الفلسطيني... وبعدها حدثت بعض الخلافات مع بعض المخرجين متعلقة بالتوجه العام للمسرح الفلسطيني... كنت أسمع بعضهم يسمي الفرقة بالمسرح الفلسطيني، والبعض الآخر يسميها فرقة فتح المسرحية، هذا الكلام كثيراً ما استوقفني، وكوّن لديّ انطباعاً عاماً غير مريح بأن هناك شيئاً ما».
في تلك المرحلة توقفت الفرقة من دون معرفة الأسباب المباشرة لهذا التوقف، لينتقل ملف المسرح الفلسطيني برمّته إلى دائرة الثقافة والإعلام في منظمة التحرير الفلسطينية في دمشق، يقول قدسية: «ذهبت إلى الدائرة وعملنا على تشكيل فرقة جديدة، غالبيتها من جسم الفريق القديم إضافة إلى بعض الأسماء الجديدة. استمرّ عملي ضمنها إلى عام 1996، لتنعكس الأحداث التي كانت تدور على المستوى العسكري وما تلاها من انشقاقات في صفوف الفصائل الفلسطينية على الفرقة».
بعد ذلك، لم يعد قدسية يجد الوضع مريحاً ضمن الفرقة التي حملت اسم المسرح الوطني الفلسطيني فابتعد عنها، وتوجّه بشكل شخصي إلى العمل في المسرح مع مجموعة من أصدقائه الذين يشاركونه وجهات النظر نفسها.
عام 1990، طُلب من قدسية العودة إلى إطار المسرح الوطني الفلسطيني، حيث قيل له: «ينبغي أن تعود لأن الأستاذ سعدالله ونوس مصرٌّ على أن تكون واحداً من أعضاء الفريق في مسرحيته الجديدة التي كانت بعنوان "الاغتصاب"»، يقول قدسية: «قرأت النص وكانت لي بعض الملاحظات عليه، ناقشتها مع الأستاذ سعدالله ونوس رحمه الله، إلا أننا لم نصل إلى صيغة مشتركة فاعتذرت عن المشاركة في هذا العمل... أقول مشاركة لأنني لم أكن قد قررت العودة إلى فرقة المسرح الوطني الفلسطيني، بل اقتصرت على المشاركة في هذا العمل عبر تأدية دور رئيسي في المسرحية وهو ما لم يحدث، وغادرت المسرح الوطني الفلسطيني يومها ولم أعد إليه منذ تلك اللحظة».
عُرضت مسرحية «الاغتصاب» عام 1991 وأخرجها المخرج المسرحي الدكتور جواد الأسدي إلا أنها لم تأخذ حظها من العروض، لأن الظروف المحيطة كانت متوترة. وبعد هذه المسرحية توقف العمل في المسرح الوطني الفلسطيني حيث وصل إلى طريق مسدودة، وأُغلقت أبوابه، وهي كذلك حتى تاريخه.
حول خصوصية تجربة المسرح الفلسطيني في سوريا، يؤكد قدسية أن دمشق دائماً كانت تمتلك خصوصية وفرادة في المسألة القومية والعربية، وبالتالي كان المناخ مهيأ تماماً لخلق أكثر من فرقة، ليس فقط فلسطينية بل فرق عربية عديدة، يقول: «هذا ديدن سوريا دائماً وأبداً، لم تقصّر يوماً في دعم هذا المسرح، والفنانون السوريون هم الذين حملوا عبء المرحلة الأولى في المسرح الوطني الفلسطيني بدءاً من عبد الرحمن آل رشي وانتهاءً بالفنان الجميل الصديق العزيز فايز قزق. فحين دخل إلى صفوف المسرح معظم الفنانين كانوا من السوريين الذين بقوا أوفياء لهذا المسرح الذي نما وترعرع في دمشق التي يلقبونها بقلب العروبة النابض، وهذا كلام دقيق جداً فهي حاضنة الجميع وقدّمت كل ما يمكن تقديمه لهذا المسرح، وحتى هذه اللحظة تحتفظ سوريا بهذه الخصوصية الرائعة التي تساعد دائماً على خلق هذا الإبداع المسرحي».
يرى المسرحي الفلسطيني أن تجربة المسرح الفلسطيني في سوريا، مرّت بثلاث مراحل تقريباً، يلخّصها لـ«الأخبار» بـ«المرحلة الأولى، التي استمرت من خمس إلى ست سنوات أو أكثر قليلاً، وبدأت عام 1968 بحسب معلوماتي التاريخية، وكانت العروض تعبّر عن منجزات العمل الفدائي الفلسطيني وعلى رأس هذا العمل الفدائي إخوتنا في حركة فتح. إنجازات الفدائيين استبشر بها شعبنا العربي خيراً، وعليه جاءت العروض المسرحية لتجسّد المنجزات التي نسمعها يومياً ونفخر بها ونعتز».
يشير قدسية إلى أن المرحلة الأولى للمسرح الفلسطيني في سوريا غلب عليها طابع الحماس والعاطفة والخطابية المباشرة، واستطاعت أن تحقق شيئاً من التصفيق الحماسي، لكن لم تناقش بشكل حقيقي مختلف تفاصيل جوانب القضية الفلسطينية ولم تعمل على تعزيز الهوية، فاقتصرت على كونها عروضاً تلبي حاجة الناس الحماسية العاطفية، ويتابع: «أما في المرحلة الثانية، فتعدّد المخرجون وتعدّدت الرؤى، واختلفت أجواء المسرح الفلسطيني الذي أخذ بالابتعاد عن مسألة الحماس والمباشرة والخطابية، فبدأوا بتنفيذ نصوص جديدة، إلا أنها لم تكن في سياق منهجي يعطي سمات محددة لهذا المسرح، بمعنى أن كل مخرج كان يتبنى النص الذي يحبه، وبالتالي هذا لا يخلق التعدد، ولا الحالة المنهجية التي تعطي سمات شخصية لهذا المسرح».
في تلك المرحلة لم يكن لدى دائرة الإعلام والثقافة في منظمة التحرير الفلسطينية برنامج عمل معتمد، يشكل ملامح أو معايير محددة للمسرح الفلسطيني ليسير عليها المخرجون المسرحيون والكتّاب والممثلون، بل كان الأمر متروكاً للمخرجين بصنع العروض التي يحبونها، يقول قدسية: «ولدت المرحلة الثالثة والأخيرة من المسرح الفلسطيني في ظل هذا الوضع القائم، وقاد المرحلة الجديدة المخرج الكبير الدكتور جواد الأسدي ودخل المسرح الوطني الفلسطيني في إطار مختلف قليلاً، قدّمه الدكتور جواد عبر العرض المميز والشهير "العائلة توت" للهنغاري شتيفان أوركيني، حازت هذه المسرحية على جائزتين ذهبيتين في مهرجان قرطاج في تونس عام 1983، ثم قدّمنا أيضاً مسرحية "ثورة الزنج" لمعين بسيسو الذي عمد فيها إلى إسقاط أحداث هذه الثورة على الواقع الفلسطيني المعاصر، وحاول من خلالها إرسال رسالة أدبية إلى المشاهد مفادها أن التحرير لن يكون إلا بالثورة الصادقة والنقية».
بعد مسرحية «ثورة الزنج» التي طُبعت أول مرة في القاهرة عام 1970، وكانت قد كُتبت قبل هذه السنة، والتي تنبّأت بالمآلات التي وصلنا إليها، بدأت الخلافات بالظهور، تلك التي ارتبطت بتوجه منظمة التحرير الفلسطينية في ذلك الوقت، والذي كان سيتم تعميمه على كل قطاعات ودوائر المنظمة بما فيها المسرح، وهو ما لم يستطع قدسية تقبّله حيث استشعر حساسية الموقف فاختار الابتعاد لتنتهي تجربته مع المسرح الوطني الفلسطيني.
عام 1991 توقف المسرح الوطني الفلسطيني في سوريا، ومنذ ثلاثين عاماً لا يوجد مسرح فلسطيني بمفهومه المؤسساتي في سوريا. واقتصر الأمر على بعض المبادرات الفردية والخاصة من الفنانين الفلسطينيين بحسب قدسية الذي أضاف: «للأسف لا توجد لدينا فرق مسرحية فلسطينية خاصة في سوريا سوى فرقة القدس المسرحية التي أسّستها مع مجموعة من الفنانين الأصدقاء، وقدّمنا باسمها خمسة أعمال، وتوقفت عن العمل عام 2005 لعدم توفر الدعم المالي».
رغم غياب مختلف أشكال الدعم، بقي زيناتي قدسية متمسكاً بالمسرح الفلسطيني، وتقديم الهوية الفلسطينية على الخشبة، فقدّم وبمبادرة فردية منه بالرغم من ضعف الإمكانات المادية العديد من العروض المسرحية باللون الفلسطيني، والتي عبّرت وناقشت مختلف جوانب القضية الفلسطينية ومآلاتها. وخلال سنوات الحرب السورية وما رافقها من ظروف خطرة ودمار طاول العديد من المدن السورية، لم يتوقف قدسية عن تقديم العروض، منها مسرحية «أبو شنار» على خشبة مسرح القباني في دمشق، ومونودراما بعنوان «الجلجلة» في حمص، إلى جانب العديد من المسرحيات الأخرى مع المسرح القومي في مختلف المحافظات السورية، يقول لـ«الأخبار»: «الفترة الممتدة منذ عام 2011 وحتى الآن كانت أكثر مرحلة في حياتي قدّمت فيها عروضاً مسرحية في مدينة حمص، حيث قدّمت خمسة أعمال مسرحية خلال العام الأخير فقط، ثلاثة منها تُعنى بالشأن الفلسطيني».
لا يزال قدسية إلى يومنا هذا يقف وحيداً على خشبة المسرح، ويجسد فلسطين بكل جوارحه وأحاسيسه، منادياً بصوت أبنائها، لم تكن آخرها مسرحية «الجزماوي» التي افتتح بها مهرجان حماة، والتي تنتمي إلى فن الحكّاء، يقول قدسية لـ«الأخبار» بنبرة صوت غلب عليها الوجع: «للأسف لا يوجد حالياً فنان عربي أو فلسطيني يقدم شيئاً له علاقة بالمسألة الفلسطينية على الإطلاق، ربما هناك بعض النزوات العابرة هنا أو هناك، لكنها عبرت، فاليوم لا توجد مؤسسة فلسطينية أو دائرة ترعى هذا الفن الفلسطيني، ويحزنني القول إن تجربة المسرح الفلسطيني في سوريا حقيقة انتهت».
يرى المسرحي الفلسطيني أن كل التجربة الفلسطينية والعربية على مختلف مستوياتها السياسية والعسكرية والاقتصادية، بل كل الحياة العربية على وجه العموم تقف حائلاً دون تأسيس مسرح وطني فلسطيني، ويضيف: «إذا كنا نريد مسرحاً وطنياً فلسطينياً فينبغي أن لا يكون رديفاً لهذه النتائج التي وصل إليها العمل الوطني الفلسطيني. بل ينبغي أن يكون نقيضاً لكل ما يجري على ساحة القضية الفلسطينية. فاليوم لدينا جيلان أو ثلاثة أجيال لا تعرف شيئاً عن هذه القضية بالمطلق.. هناك عمل ممنهج لنسف الذاكرة الفلسطينية، ولكي يكون الفراغ في رؤوسنا هو سيد الموقف... وبالتالي اليوم، إذا أردنا تأسيس مسرح وطني فلسطيني أو مسرح فلسطيني، يجب أن تكون له علاقة بمسرح المقهورين أولاً».
(محمود خليلي)

الفنان التشكيلي الفلسطيني محمود خليلي
كان ولا يزال الفن التشكيلي الفلسطيني واحداً من أهم أشكال المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، وظّفه الفنانون الفلسطينيون لتوثيق الأحداث التي مرّت بها فلسطين منذ النكبة عام 1948، والتعبير عن معاناة الفلسطينيين، ونضالهم من أجل الحرية والاستقلال.
الفنان التشكيلي محمود خليلي المقيم في سوريا، هو اللاجئ الفلسطيني الذي حمل قضيته الفلسطينية، وعبّر عنها بلوحاته الفنية، يقول لـ«الأخبار»: «لا شك أن الفنان التشكيلي الفلسطيني ساهم وبشكل فاعل في رفد النضال الوطني الفلسطيني بإبداعاته المتنوّعة، في الرسم والنحت وفن البوستر والغرافيك، وواكب نضال شعبه منذ تأسيس الحركة التشكيلية الفلسطينية المعاصرة بعد نكبة 1948 بسنوات قليلة».
خليلي (66 عاماً) ابن مخيم النيرب الفلسطيني في محافظة حلب، وتخرّج في كلية الفنون الجميلة في دمشق عام 1986، يرى أن الفن التشكيلي الفلسطيني ارتبط ارتباطاً قوياً بالمتغيرات التي عصفت بفلسطين وقضيتها منذ النكبة وحتى الانتفاضة «الفلسطيني رسم في البداية ويلات النكبة والنزوح والخيام، ثم انطلاقة الثورة عام 1965، وكان رمزه الفدائي بكوفيته وبندقيته، وفي يوم الأرض عام 1976 ظهر رمز شجرة الزيتون والبرتقال والمرأة الفلسطينية بثوبها المطرّز، وفي الانتفاضة الأولى عام 1987 والانتفاضات المتوالية، سيطر الحجر وزجاجة المولوتوف والمقلاع وغيرها من الرموز التي رافقت النضال اليومي الفلسطيني».
وجد الفن التشكيلي الفلسطيني في سوريا بيئة مكّنته من تأدية دور فاعل في العمل الوطني الفلسطيني ككل، حيث استفاد من التجمعات الثقافية والفنية في سوريا والتي اعتبرت فلسطين قضيتها، يقول خليلي: «الفنان الفلسطيني في سوريا تمتّع بنفس مكانة وحقوق الفنان السوري، ومارس نشاطه الإبداعي دون معيقات وبكل حرية، وهو عضو نشِط في اتحاد الفنانين التشكيليين السوريين، ويعرض إبداعه إلى جانب الفنان السوري دون تمييز».
بعد تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964 وانطلاقة الثورة الفلسطينية عام 1965، تم إنشاء مؤسسات فاعلة في الفن التشكيلي، وبعد تأسيس الاتحاد العام للفنانين التشكيليين الفلسطينيين عام 1979 ازدهرت الحركة التشكيلية بشكل ملحوظ، وكان هذا بمثابة فرصة لتعارف الفنانين الفلسطينيين في الدول المختلفة وازداد التفاعل، وازداد عدد المعارض الداخلية والدولية، واستطاع الفنان الفلسطيني إيصال رسالته الفنية والوطنية إلى الكثير من دول العالم، يقول خليلي لـ «الأخبار»: «نحن في فرع سوريا للاتحاد العام للفنانين التشكيليين الفلسطينيين، نواظب دون انقطاع على إقامة معرضنا السنوي، وكان عنوانه الكرامة سابقاً، وتغيرت التسمية منذ سنوات ليصبح معرض يوم الأرض، ونقيم إلى جانبه الكثير من المعارض في المناسبات الوطنية المختلفة، وكانت لنا سابقاً فرصة للمشاركة في المعارض العربية والدولية، لكننا حُرمنا منها بعد أوسلو 1993 واقتصرت المعارض الخارجية على فنّاني الأرض المحتلة».
شأنه شأن أي شيء في سوريا التي طاولت الحرب فيها مختلف جوانب الحياة لكل من يعيش فوق هذه الرقعة الجغرافية، عانى الفن التشكيلي من ويلات النزوح والتهجير وإتلاف جزء كبير من الأعمال الفنية التي تُعتبر أيقونات للفن التشكيلي الفلسطيني والسوري على حد سواء، يتحدث محمود خليلي عن وضع الفن التشكيلي خلال الحرب ومحاولات النجاة فيقول: «وجع الأهل في سوريا هو وجعنا، سواء كنا في داخلها أو خارجها، وما عانى منه الفنان السوري عانى منه الفنان الفلسطيني، وجسّد الفنانون التشكيليون الفلسطينيون الهول والوجع اللذيْن وقعا على سوريا وشعبها، بنفس الاهتمام الذي تم التطرق إليه لما آلت إليه مخيماتنا، ومدى الدمار الذي لحق بها، والهجرة التي أفقدتنا الكثير من شبابنا، ومنهم الكثير من الفنانين».
تركت الحرب السورية ومآلاتها أثراً على الفنان محمود خليلي كغيره من باقي الفنانين وحركة الفن التشكيلي في عموم البلاد، حيث عُرفت غالبية الأعمال التي أُنجزت في تلك المرحلة بغياب الألوان وفقدان الأمل لتعكس واقع الحرب الذي عاشها الإنسان السوري، يتحدث خليلي عن تلك المرحلة «كيف تستطيع أن ترسم وبأي مزاج، وبيتك مهدّم، وخسرت كل ما صنعته وادّخرته لأولادك في المستقبل، وقفنا عاجزين أمام هول الصدمة... توقفت عاجزاً عن التعبير عن حقيقة ما جرى ويجري في عدة سنوات، وبعدها استعدت بعضاً من قدراتي وعزيمتي وعدت للرسم، في البداية لم أجد فسحة للألوان على سطح لوحاتي، فلجأت إلى الأبيض والأسود، وقليل من الأحمر في بعض الأحيان، ورويداً رويداً بدأت الألوان تشغل مساحات أكبر من سطح اللوحة».
يعود اليوم الفنان التشكيلي محمود خليلي إلى مرسمه الصغير الذي استحدثه داخل المنزل الذي لجأ إليه في حي العفيف الدمشقي بعد أن أكلت نيران الحرب مرسمه وبيته في مخيم اليرموك، يضرب ألوانه على القماش فيطغى عليها ألوان الأحمر والأسود والأبيض والأخضر، فيرسم فلسطين ويعبر عنها في كل لوحة جديدة، يختم حديثه لـ«الأخبار»: «لا تحديات تهزمني أنا وفرشاتي وألواني، ما دامت العزيمة حاضرة، وما دام إيماني بدور الفنان في مستواه الأعلى، وإيماني بعدالة قضيتي لا يُقهر، ومع أننا اليوم نعمل في غياب شبه كامل للمؤسسات الوطنية الفلسطينية الداعمة... نحتاج إلى مزيد من الثقة بأهمية ما ننتج، ودعم أكبر من المؤسسات الفلسطينية المعنية».
(حسن حميد)

الروائي والقاصّ الفلسطيني الدكتور حسن حميد
وثّق الأدب تاريخ الشعب الفلسطيني وقضيته، وطالما كان الكتّاب الفلسطينيون حاضرين في المشهد الثقافي العربي، يقول الروائي والقاصّ الفلسطيني الدكتور حسن حميد لـ«الأخبار»: «عاش الكتّاب الفلسطينيون في سوريا، وعبر أجيال أدبية متعددة في مناخ ثقافي شبيه جداً بالمناخ الثقافي الذي عاشه الكتّاب السوريون، وقد تجاورت النصوص الأدبية السورية والفلسطينية في صفحات الصحف والمجلات السورية، وخرج الكتاب الفلسطيني من دور النشر السورية بالطريقة ذاتها التي خرج بها الكتاب السوري الجديد، فكانت البيئة الثقافية السورية حاضنة وراعية للثقافة الفلسطينية».
ويتابع حميد متحدّثاً عن دور المؤسسات الوطنية في دعم الإنتاج الفكري الفلسطيني في سوريا «جهات سورية عدة رعت الأدب الفلسطيني، ولكنّ أهمها مؤسستان هما: وزارة الثقافة السورية، واتحاد الكتاب العرب. جبرا ابراهيم جبرا قرأنا أدبه مطبوعاً في هاتين المؤسستين، ورشاد أبو شاور، وعبد الكريم الكرمي. إضافة إلى الدور الذي لعبته المجلات في نشر النصوص الإبداعية للأدباء الفلسطينيين أمثال معين بسيسو، وراشد حسين، وأحمد دحبور، ومحمود علي السعيد، وعصام ترشحاني، ونواف أبو الهيجاء، ويحيى يخلف...».
وعن تجربة الأدب الفلسطيني في سوريا قبل الحرب فيها، يرى حميد أن الأدب الفلسطيني في سوريا عرف انطلاقة شديدة الغنى وحضوراً وأهمية، فأدباء وشعراء من أمثال فواز عيد ومحمود موعد، ونقاد من أمثال يوسف سامي اليوسف وفيصل دراج عُرفوا في الساحة الثقافية السورية... وكانت لكتاباتهم وأصواتهم خصوصية فلسطينية مهمة جداً... ومن الساحة الثقافية السورية انتشروا وعُرفوا في جميع المشاهد الثقافية العربية.
أما عن واقع الإنتاج الأدبي الفلسطيني في سوريا اليوم خاصة بعد الحرب، فيقول حميد: «بات المشهد الثقافي الفلسطيني يعاني من مشكلات كثيرة، لعل أبرزها انعدام فرص النشر بسبب تكاليف الطباعة الغالية جداً، ثم بسبب خروج عدد مهم من الكتّاب الفلسطينيين واللحاق بأسرهم، وكمثال يوسف سامي اليوسف خرج إلى مخيم النهر البارد في لبنان ووافاه الأجل هناك، د. فيصل دراج -ربي يطوّل في عمره- يعيش في الأردن، وغيرهما ممن هاجر مضطراً إلى البلاد العربية الغربية، أمثال جمال جنيد، وفجر يعقوب، وأحمد سعيد نجم...».

يرى حسن حميد أن الأديب الفلسطيني في سوريا يواجه اليوم تحديات كبيرة لتقديم منتج فكري أدبي رصين يحمل الهوية الفلسطينية، ويكون رديفاً للعمل الوطني الفلسطيني، ويقول: «الشيء المؤلم يتمثل في غياب المؤسسات الفلسطينية، فهي لا تقوم بأدوارها من أجل تفعيل الثقافة الفلسطينية عامة، لا طباعة كتب، لا نشر للنصوص، لأن المجلات الفلسطينية غابت وتوقفت، والمؤتمرات والملتقيات شبه غائبة، ومجلات فصائل المقاومة غابت وتوقفت في معظمها، ولهذا لا ذكر لأسماء أدبية جديدة»، مشيراً إلى أن المطلوب اليوم لمحو هذه الحال الباهتة، هو العودة للاهتمام بالثقافة الفلسطينية، الاهتمام بالكتاب، واللوحة التشكيلية، والأغنية، والقطعة الموسيقية، والفيلم، والمسرحية».
»لا بد لوزارة الثقافة الفلسطينية من القيام بدور توحيد الثقافة الفلسطينية في الوطن والشتات» بهذه الكلمات يشدد صاحب «مدينة الله» و«جسر بنات يعقوب» على دور المؤسسات الفلسطينية في دعم الكاتب والأديب الفلسطيني أينما وجد، ويضيف: «كي لا نغمّض العين، أقول إن جهوداً ثقافية مهمة قامت بها وزارة الثقافة الفلسطينية، واتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين في السنوات الأخيرة... جاءت من أجل توحيد الثقافة الفلسطينية في الوطن والشتات».
وعن أمنياته للثقافة الفلسطينية كلاجئ فلسطيني وأديب، يقول حميد: «المطلوب أن أعرف ما يكتبه كاتب كبير مثل محمود شقير في القدس، وأن يصل كتابه إلى غزة والضفة وأم الفحم وإلى دمشق وبيروت والقاهرة وبغداد، وأن تصل كتابات د. فيصل دراج النقدية إلى القدس وعكا وشفاعمرو، وإلا سنكون ممن رضي بثقافة الجزر والأقاليم. المعلومات الثقافية شحيحة ونادرة ما بين الأمكنة الفلسطينية التي شظّاها المحتل الإسرائيلي، فكيف هي الحال حين نطالب بمعرفة ما يكتبه الأسرى الفلسطينيون، وكيف تصل إلينا كتبهم؟»
يخلُص د. حميد إلى أن حالة المشهد الثقافي الفلسطيني ليست قاسية وصعبة وحسب، بل هي معضلة، ويستتبعها بالقول: «كتابنا لا يصل، ولا إلى أي جهة، وكذلك هي حال اللوحة التشكيلية، والمسرحية، والفيلم السينمائي... لهذا نحن غائبون رغم أنوفنا عن كل شيء... من الجائزة الأدبية إلى التظاهرة الثقافية. اليوم معجزة أن يُدعى كاتب فلسطيني إلى ملتقى كي يتحدث عن ألف باء الحياة الفلسطينية، أو ألف باء الثقافة الفلسطينية، ومعجزة أن يفوز كتاب فلسطيني أو موضوع فلسطيني بتكريم أو ثناء، حتى لو كان بسيطاً والسبب هو أن قوى تلعب في هوائيات الثقافة العربية وتوجّهها من أجل خلق "العربي الجديد" الأنيق الدمث المنحني والعاري».