بعد اقتتال دموي، استمر عدة أيام في مخيم عين الحلوة، استُخدمت فيه مختلف الأسلحة الخفيفة والمتوسطة في حرب الشوارع والأزقة في المخيم، يدور الحديث دوماً عن أنها «جولة عنف جديدة» من الصراع وتنتهي، لندخل في هدوء نسبي يشوبه الحذر، ثم تتلاشى الأحداث رويداً رويداً، فلا نعود نسمع شيئاً، سوى آهات عائلات الضحايا، ومآسي الجرحى، ولا تمر في مخيلتنا إلا مشاهد البيوت المدمّرة، والدكاكين والمحالّ المحترقة، والمصالح التجارية المعطّلة.نعم، إنها جولة عنف جديدة، يتجدّد فيها القتل، والتدمير والتهجير، وكأنه لا يكفي اللاجئ في لبنان ما يعانيه من ويلات الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتردية، التي تلقي بكاهلها على كفافه اليومي، لكي يلاحقه الرصاص في بيته ودكانه وفي زقاقه الضيق.
وفي كل مشهد، من مشاهد الصراع، يتكرر مشهد مضحك مبكٍ، هو هرولة فصائل ما يسمى «هيئة العمل الفلسطيني المشترك»، التي أشك كثيراً في أنها اسم على مسمى، للحد من الاقتتال، وإعادة الهدوء إلى المخيم، لكن من غير حلول جذرية، لنعود من جديد في يوم مفاجئ آخر إلى جولة «عنف جديدة».
ربما الخوض في دهاليز السياسة والأمن، لا يعني الناس كثيراً، فهو لن يعيد عزيزاً فُقد، أو بيتاً هُدم، أو بضاعة احترقت، حديثي هو عن هؤلاء الناس، البسطاء، الذين لا ناقة لهم ولا جمل، الذين يلاحقون لقمة العيش، ماذا حقّق لهم هذا الاقتتال؟
لقد شُردت مئات العائلات خارج المخيم إلى مدينة صيدا، فآوت المساجد بعضها، وامتلأت مدارس «الأونروا» بنحو ألفي لاجئ، وغصّت المتنزهات، وافترش البعض الآخر شاطئ البحر، في أحرّ أشهر الصيف «آب اللهّاب». هم أناس يعيشون على رزق عملهم اليومي، وجدوا أنفسهم ذات يوم قائظ تحت مرمى القذائف، في خلاف يُعدُّ تاريخياً، لا لأنه يحمل بعداً وطنياً، بل لأنه يحمل نزاعاً بين أناس انتُزعت من قلوبهم الرحمة. ففي المخيم، رجال متعبون من كفاح عمل يوم طويل، وفيهم الطفل الرضيع، والمسنّ، والمريض، هل تساءل من كان يطلق النار بـ«بطولة مصطنعة» ما هو مصير هؤلاء في حال استمرت المعركة لأسابيع؟ بالتأكيد لا!
من يمحو من ذاكرة طفل صغير، وقع دويّ الانفجارات، والرعب الذي انتاب وجوه الأمهات؟ من يمحو قلق الرجال على عائلاتهم المحاصرة في المخيم؟ من يمسح دمعة من دُمر دكانه وهُدم بيته؟ فكما تعلمون، «الأونروا» لا تعوّض شيئاً عن أضرار النزاعات في المخيم، وسيتكرر المشهد من جديد كما في السابق، من يعوض على الناس خسائرهم؟
عاد الناس إلى المخيم، لا لأنهم اطمأنّوا، بل لأن ليس هناك خيار آخر


أتساءل دوماً، ألم يكن ممكناً لو صُرف مال الرصاص والقذائف التي أُطلقت، لبناء حضانة في المخيم، أو إصلاح شبكة المياه والكهرباء، أو لبناء معهد فني، أو حتى لإنشاء ملعب لكرة القدم للأطفال؟ ألم يكن ذلك ممكناً؟ ربما...
وحتى لا نجلد أنفسنا كثيراً كفلسطينيين، لكل شيء سبب، إن ما وصل إليه حال مخيم عين الحلوة من النزاع المستمر والمتواصل سببه اللجوء الذي تسبب به احتلال بلدنا فلسطين، وعدم إعطاء الدولة اللبنانية الفلسطيني الحقوق المدنية، وعلى رأسها حق العمل، فضيّقت عليه الدنيا، وحاصرته في المخيم… وهذا لا يبرّر على الإطلاق ما يحصل في مخيم عين الحلوة لكنها الحقيقة، فعندما تحاصر الإنسان وتمنع عنه سبل العيش، ماذا تظن أنه فاعل؟ فضلاً عن إهمال اللاجئ الفلسطيني من قبل السلطة الفلسطينية، وعدم قدرة الفصائل على تلبية حاجات اللاجئين إلا بالضغط على «الأونروا» التي تقول إنها في حالة عجز دائم، فضلاً عن أجندات دولية للمخيم عبر وكلائها، كلها مسبّبات لنتيجة واحدة: عودة مشهد العنف من جديد.
عاد الناس إلى المخيم، لا لأنهم اطمأنّوا، بل لأن ليس هناك خيار آخر، فلا مأوى غير المخيم، لقد فرضت الظروف القسرية نفسها من جديد على الناس، فعادوا، ولا هو عودٌ أحمد، بل هو عود مشوب بالخوف والحذر والمرارة، تصديقاً للمثل الشعبي الشهير: «شو يللي جبرك على المرّ، قال يللي أمرّ منه».
هي عجلة الحياة القوية، ومع الوقت، سيتناسى الناس، وتضيع من الذاكرة أصوات الرصاص والقذائف، بزحمة السوق والناس، سيفتح الناس دكاكينهم، وسيعود الباعة إلى سوقهم، والأطفال إلى لعبهم، لكن ماذا عن المتنازعين؟ طالما غابت الحلول الجذرية، هم على الأرجح سيعودون من جديد إلى عبثهم كالعادة، كذلك ستعود هيئة العمل الفلسطيني المشترك إلى العمل كالعادة، لكن للأسف هل سيكون لدينا ضحايا جدد، ودمار جديد، ورعب جديد، كالعادة؟ إلى متى؟ اتقوا الله في الناس.