عندما استباحت العصابات الصهيونية فلسطين، عام 1948 من القرن الماضي، ونفّذت أسوأ حملة تطهير عرقي في العصر الحديث، هادمة معالم المجتمع المحلي، سياسياً واقتصادياً وحضارياً وثقافياً، لم يدر في خلد الاحتلال ربما أن نحو 150 ألف فلسطيني، ممن بقوا داخل حدود ما سمي بـ «الخط الأخضر» وقتذاك، سيتحوّلون خلال بضعة عقود، إلى قنبلة ديموغرافية، تقف حجر عثرة، في وجه مخطط «الدولة القومية للشعب اليهودي». تسارُع النمو السكاني الفلسطيني، تحوّل، مع مرور الوقت، إلى مصدر قلق إسرائيلي، لم يكن بالإمكان تجاهله، لذا سعت تل أبيب، بكل الوسائل الممكنة، إلى التضييق على السكان الأصليين، ووضعتهم في مواجهة مفتوحة مع رُزمة من القوانين العنصرية، بدءاً بقانون «استملاك الأراضي»، وليس انتهاءً بـ«قانون القومية»، بالتوازي مع محاولات «الأسرلة»، وهو مصطلح يشير إلى مساعي شطب الانتماء العربي، عبر تذويب الهوية الفلسطينية، في وعاء «الرواية الصهيونية».
الرغبة الإسرائيلية بمجتمع فلسطيني «مدجّن»، لم تجد لها مسلكاً. جدار الصمود الفلسطيني، بعد ذكريات النكبة ومآسيها، كان أقوى من الاختراق. من هذه الجزئية، واصل الاحتلال النظر إلى الفلسطينيين بعَين الريبة، وعدّهم شوكة في حلق «المشروع الصهيوني». الخشية الأساسية تمحورَت حول احتمالية تحوُّل أهالي الداخل المحتل، إلى جبهة متقدمة في الصراع مع الاحتلال، تتماهى مع القضايا الوطنية، وتتكامَل مع صورة المواجهة القائمة في الضفة الغربية وقطاع غزة، حتى جاءت أحداث «يوم الأرض» في شهر آذار عام 1976، وكانت أشبه بمفترق طرق، بعد أن بذل الفلسطينيون الدماء من أجل الأرض، في أقوى احتجاج جماعي منظّم في الداخل الفلسطيني منذ النكبة، رفضاً للسياسات الإسرائيلية.
ما حدث في «يوم الأرض»، لم يكن سحابة صيف عابرة، بل أسّس لحالة وطنية حاضرة، وجاهزة للاتّقاد، كلما دعت الحاجة، بشهادة «هبّة أكتوبر» عام 2000، التي تجلّت في سلسلة احتجاجات غاضبة، رفضاً لاقتحام رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أريئيل شارون، المسجد الأقصى المبارك، وصولاً إلى «هبة الكرامة»، خلال معركة «سيف القدس» عام 2021. تكامُل الجغرافيا الفلسطينية وقتَها، رفضاً لـ«مسيرة الأعلام»، تسبَّب بخضَّة للمستويين السياسي والأمني في إسرائيل، استدعَت «جردة حساب»، إذ إنّ انضمام فلسطينيي الداخل - بمعظم فئاتهم- إلى الحراك الجامع، حول قضية وطنية بحجم الأقصى، كان بمثابة خنجر أصاب قلب الكيان.
من المعلوم أنّ كلّ «هبّةٍ» فلسطينية، لم تمرَّ هكذا، من دون أن تُسفر عن شهداء برصاص الاحتلال ومستوطنيه. لا ريبَ عموماً، أن الدمَ الفلسطيني رخيصٌ في القاموس الإسرائيلي، وهذا ما فسَّر انتقال الكيان لاحقاً إلى سياسة جديدة في المواجهة الخَشنة، بدأت ملامحها تَظهر قبل عقدين ونيّف، تقوم أعمدتُها على تغذية العنف والجريمة بين صفوف الفلسطينيين في المدن والبلدات المحتلة عام 1948.
بالنّظر إلى الخطّ البيانيّ للجرائم في المجتمع الفلسطيني بالداخل المحتل، يتبيّن أن الظاهرة أخذَت خلال السنوات الأخيرة، منحى تصاعديّاً خطيراً. بطبيعة الحال، هناك تلازُم بين تصاعد الإجرام وغياب الرّادع. وبمعنىً آخَر، يدلُّ العنف المتنامي على وجود قطبة، لكنها ليست خَفيّة هذه المَرة، وعنوانُها العريض: «التلاعب الإسرائيلي»، سعياً لتمزيق الفلسطينيين، وبعثرة صوتِهم، وحشرهم في زاوية ضيقة، وإلهائهم في مشاكل جانبيّة، وذلك بعد أن وصلت مساعي تذويبهم ودمجهم في «النظام الإسرائيلي» إلى حائط مسدود.
اتهام إسرائيل بالوقوف خلف العنف المفرط في الداخل المحتل، لهُ ما يسندُه. بالمقارنة بين أعداد الجرائم في المدن والبلدات ذات الغالبية الفلسطينية، والمناطق التي تقطنها جماعات المستوطنين، هناك بَون شاسِع، وتباينٌ فاضح في النسب، وهذا ما يقود إلى نتيجة حتمية، هي أن الاحتلال يمنع الإجرام في حيّز جغرافي معين، أو يكاد، وينمّي الفعل الجرمي في حيّز آخر، ويعززه من تحت الطاولة، بخلاف ما يدّعي، كيفَ لا والمحتلّ صاحبُ المصلحة الوحيد، في تسجيل النقاط على الفلسطينيين، وإخراج الأوضاع في أماكن وجودهم عن السيطرة، والاكتفاء بالتفرّج طالما أنّ المفاعيلَ لا تصيبُه، ولو مرحليّاً.
وممّا لا شك فيه، أن وجود أكثر من 600 ألف قطعة سلاح غير مرخّصة، في أيدي الفلسطينيين بالداخل المحتل -وفق إحصائيات رسمية- يعدُّ رقماً كبيراً، ليس بالإمكان القفز عنه، وإنما يَدفع إلى طرح تساؤلات، عن سياسة غضّ النظر الإسرائيلية عن تلك الأسلحة، والآلية التي تسهّل الحصول عليها، والسبب في عدم اتخاذ خطوات فعلية لمصادرتها، أو ترخيصها على الأقل.
ما يحدثُ ليس عفويّاً أو عبثيّاً أو قدَريّاً. هناك المزيد من شواهد التّغذية الإسرائيلية للعنف في الداخل المحتل


ما يحدثُ ليس عفويّاً أو عبثيّاً أو قدَريّاً. هناك المزيد من شواهد التّغذية الإسرائيلية للعنف في الداخل المحتل -كي يتحول إلى سلوك ممنهج- ومن جملتها:
سياسة الإفلات من العقاب: إذ كثيراً ما تسجّل سلطات الاحتلال الجرائم ضد مجهول، أو تماطل في ملاحقة المجرمين، أو تُخفف الأحكام ضد المتهمين في حال إدانتهم، كما تَمتنع عن إنفاذ القانون في حالات كثيرة، بذريعة تشجيع الوساطات المحلية وسواها، والهدف من وراء ذلك كله، يكمُن في إبقاء المجرمين خارج السجون، وتعزيز الأحقاد وعمليات الثأر، وإطالة سلسلة العنف، وجعل شريعة الغاب الحاكمَ عوضاً عن القانون.
قلة أعداد الشرطة الإسرائيلية ومراكزها، وكاميرات المراقبة، والإجراءات الوقائية، في المناطق التي تقطنها غالبية فلسطينية، وبطء الاستجابة لحالات الطوارئ، وهي عوامل تشجع على العنف، وتسهّل ارتكاب الجرائم، وهروب الجناة، وإطالة أمد الأزمة.
أشارت عدة مؤسسات فلسطينية -في أكثر من دراسة وبحث- إلى أن العنف في الأراضي المحتلة عام 48، باتت ترعاه منظمات وعصابات إجرام منظّم، تحت مرأى ومسمع السلطات الإسرائيلية، التي لم تتخذ خطوات فعلية لردعها.
من نافلة القول، أنّ النّظام الأمنيّ والمخابراتيّ الإسرائيلي، بإمكاناته البشريّة والتكنولوجيّة والعملانيّة الكبيرة، لن يكون عاجزاً في أيّ حال لو أراد، عن تَجفيف منابع بيع السلاح، ثم قَطع الطريق على الإجرام، ولو بالحد الأدنى، مستعيناً بالقدرة والسلطة والرغبة. لكنْ لا خلافَ، على أن غاية الاحتلال العليا، من إدارة الظهر للانفلات الحاصل في البيئة الفلسطينية، شمال البلاد المحتلة خصوصاً، تتلخَّص في إشاعة الفوضى والنزاعات الفئوية، وعزل الفلسطينيين عن قضاياهم الوطنية والقومية.