في عدة محطات تاريخية من صراعنا مع الاحتلال، عشنا فيها هزائم أو نكسات، كانت تأتي ومضة تمحو هذه الهزيمة، وتحيي فينا من جديد روح المقاومة، والمثابرة، وتذكرنا بأصالة الشعوب، رغم قسوة السياسة والمصالح التي تتمحور فيها حركة الأنظمة. هذا ما شهدناه مع الجندي المصري محمد صلاح.وفي تاريخ صراعنا مع الكيان الإسرائيلي، محطات كانت مفصلية، ومنها الحرب التي خسرناها عام 1967 والتي أطلق عليها مصطلح «النكسة». كانت محطة مؤلمة في التاريخ الفلسطيني والعربي، وإذا عدنا إلى ما كتبه القادة الفلسطينيون في تلك المرحلة، يتبين لنا كم كانت الآمال مرتفعة بالرئيس جمال عبد الناصر، وعندما انقشع غبار المعركة، وبدت فداحة ما جرى، تلمّسنا حجم الألم في نفوس هؤلاء القادة.

النكسة في عيون القادة الفلسطينيين
سجّلت مذكّرات القادة الفلسطينيين تلك اللحظات بواقع من الأسى، وأثارت لدى البعض منهم تبدلات عميقة، وتغييراً في المسار السياسي والنهج الفكري، ومن هؤلاء فتحي الشقاقي المؤسس والأمين العام لحركة «الجهاد الإسلامي» في فلسطين، الذي كان عمره آنذاك ستة عشر عاماً، والذي سجّل ما شعر به حينها، بعد سنوات طويلة: «كان مفاجئاً لنا أن ينكسر زعيم كعبد الناصر ذلك الانكسار الكبير، فأُصبنا بعدم التوازن، وأذكر أننا أدمنا لاحقاً مقالات الصحافي حسنين هيكل، إذ إنها أعادت لنا بعض التوازن... أعاد لنا هيكل التوازن بتفسيراته ومبرراته لأسباب الهزيمة يوم الجمعة الذي يذيب القلق... غير أننا اقتنعنا بأن ذهاب القلق غير مجد، فبدأ تحولي إلى طريق مختلف وهو المنحى الإسلامي» («رحلة الدم الذي هزم السيف»، الأعمال الكاملة للشهيد الدكتور فتحي الشقاقي، المجلد الأول، مركز يافا للدراسات، ط1، القاهرة، 1997 ص 49).
ويسجل القائد الفلسطيني الكبير جورج حبش في مذكّراته: «كانت تلك الأيام صعبة جداً، وأعادتني إلى المشاعر التي عشتها في عام 1948، حين سقطت القدس... هزيمة حزيران\يونيو وضعتنا أمام واقع جديد سواء على صعيد الحركة أو على صعيد العمل الفلسطيني... ومن أهم الخلاصات التي سجّلتها لأطرحها على قيادة الحركة أن الجماهير وحدها هي القوة الأساسية التي تصنع التاريخ» («صفحات من مسيرتي النضالية، مذكّرات جورج حبش»، تحرير وتقديم سيف دعنا، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، بيروت، ص 149).
وفي ظلام ما شكّلته تلك الحرب من سواد في عيون من شهدوها، ومن ألم يعتصر في القلوب، جاءت السنة التالية بومضة تاريخية عام 1968 في معركة الكرامة التي حملت اسم البلدة الأردنية الصغيرة في غور الأردن، والتي لها من اسمها نصيب، لتمحو ذل العار الذي أُصبنا به في نكستنا عام 1967، فاشترك الفدائيون من فصائل منظمة التحرير، مع جنود من الجيش الأردني في هذه المعركة، التي أسفرت عن تكبيد جيش الاحتلال الإسرائيلي خسائر فادحة. فأدّت هذه المعركة بنتائجها إلى ازدياد شعبية حركة المقاومة الفلسطينية، فانضم عشرات الآلاف من المتطوعين الفلسطينيين والعرب إلى صفوفها، وكان الفيصل في هذه المعركة، اشتراك هؤلاء الجنود الأردنيين بالمعركة بقرار فردي، بعد أن عطّلوا أجهزة الاتصال بالقيادة الأردنية، حتى لا تأتي التعليمات مخالفة للوجدان الوطني، فكان فعلهم دلالة أخرى على أصالة الشعوب العربية.

ومضة جديدة
جاءت العملية التي نفّذها الجندي المصري محمد صلاح عن سابق تصور وتصميم وطني على الحدود المصرية الفلسطينية، لنستعيد تلك الومضة التي تترك أثراً عميقاً رغم كثافة الظلام، إذ استعادت مصر سيناء عام 1973، لكنها أدّت أيضاً إلى خروج مصر من الصراع باتفاقية كامب ديفيد عام 1979، ومنذ ذلك الوقت إلى تاريخنا هذا، جرى الكثير، وبدأ تاريخ جديد من العلاقة مع الكيان، لتحصل ومضة الجندي أيمن حسن عام 1990، الذي اجتاز الحدود المصرية الفلسطينية عام 1990 وقتل عدداً من جنود الاحتلال، وقبله سليمان خاطر.
كان من اللافت جداً، أن عملية الجندي محمد صلاح التي سقط فيها ثلاثة من جنود الاحتلال الإسرائيلي، أن ذكّرت المحتلين بالخيبة، التي طالما تحدثوا عنها، وشكّلت عقدة تاريخية بالنسبة إليهم، ذلك أن «معاهدات السلام» المصرية والأردنية لم تحقق النتائج المطلوبة على مستوى الشعوب، وأن هذا التاريخ الفاشل من تلك العلاقة يجب «تصحيحه» أيضاً مع الدول التي دخلت بمساره حديثاً، ورغم مرور 44 عاماً على «اتفاقية السلام» المصرية الإسرائيلية، فإن عملية صلاح أكدت لدى الكيان أن الاتفاقات الموقّعة معه، ما هي إلا «وهم» حسب تعبير الصحافة الإسرائيلية بعد العملية.
لقد عبّرت الثقافة المصرية والعربية عن نفسها، عن ثقافة العروبة وفلسطين، محمد صلاح الوسم الأول على وسائل التواصل الاجتماعي: نبض الشعوب.