في جلسة طويلة ماتعة غنية مع المفكر الوطني الفلسطيني منير شفيق، سنحت الفرصة والفسحة بإحاطة شاملة بكثير من التفاصيل الفلسطينية، منذ بدايات النضال، حتى يومنا هذا. تحولات كثيرة في المشهد، يؤكد شفيق أنها قلبت الموازين على رأس الاحتلال، وفي مقدمتها حالة المواجهة المفتوحة عسكرياً في الضفة الغربية، وتوازن الردع الذي فرضته المقاومة في قطاع غزة، إلى جانب المخاطر التي باتت تتهدد إسرائيل مِن خارج جغرافيا فلسطين التاريخية، الأمر الذي يؤشر إلى قرب اكتمال العوامل والمحددات، التي من شأنها حسم النزاع لمصلحة الجانب الفلسطيني، ولا سيما أن صورة الجيش الذي لا يهزم، تداعت إلى غير رجعة.يتشدّد شفيق، في رفض كل أشكال العلاقة والتواصل والتنسيق مع الكيان، على اعتبار أن الاعتراف بالاحتلال، رسميّاً كان أم ضمنيّاً، يُكسبه شرعية نحن الفلسطينيين لسنا ملزمين أو مضطرين لتحمل تكلفتها الباهظة، ولا يتردد الرجل في اعتبار «اتفاق أوسلو» الموقَّع بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل عام 1993، مدخلاً أرَّخ لحقبة سوداء في تاريخنا الحديث، ندفع ثمنها إلى اليوم، مع تصاعد القتل والاستيطان والتهويد والهدم والتهجير، والانتهاكات على اختلاف صنوفها بحق الأسرى والمسرى، في نتيجة حتمية للانتقال من الخنادق إلى الفنادق.
التلازُم بين الاتفاق، الذي تمسكت به السلطة، وتصاعُد الإجرام الإسرائيلي، وقضم الحقوق وهضم الثوابت، أسَّس لحالة غير صحيَّة ولا سويَّة، كانت ستتكفل بشكل أو بآخر، في إصابة القضية الفلسطينية في مقتل، لولا أنّ فصائل المقاومة استدركت على الواقع، واستطاعت خرق المشهد المتراخي، وإبقاء الجذوة النضالية مشتعلة، يُضيف المفكر الفلسطيني، حتى جاء تحرير قطاع غزة، من غيرِ قيد أو شرط، ليُحدث انقلاباً في المشهد، دلَّ عن أن دحر الاحتلال ليس مستحيلاً، بل هو في حدود الممكن والمُستطاع.
من هنا، يستدعي شفيق الماضي لمقارنته بالحاضر، ويخاطب التاريخ ليحاكي اليوم والغد، هيَ ليست مرحلة البكاء على الأطلال، بل التغني بالمنجزات من منظور استراتيجي واسع، لا ضيِّق الأفق. وإذا أردنا تبسيط المفردات، أو حتى فلسفتَها، فالمحصَّلة واحدة، صحيحٌ أننا لم ننتصر بالمعنى الشامل، ونقتَلع المشروع الصهيوني، لكنَّ الاحتلال أيضاً يعجز عن الانتصار عمليّاً منذ العام ألفين، وهو الذي اعتاد في حقبة خلَت، على المبادرة، موقناً بقدرته على «حسم» أي معركة في غضون أيام، إن لم نقل ساعات، وهذه في حد ذاتها هزيمة للكيان في حدود معينة، وقدرة ردعٍ اعتبارية في جعبة المقاومة، إذا ما وضعنا موازين القوى على الطاولة.
ما يفعله الفلسطينيون، بإمكانياتهم المتواضعة، وقدرتهم المحدودة عسكرياً وجغرافياً وسياسياً، أقرب إلى الإعجاز، ولم يكن ليصِّدقه أحدٌ ربما، لو قيل قبل عقدين من الزمن


وبالحديث عن الأيام، وفي معرض دعم الفكرة بالشواهد، يمرّ شفيق، على عدد من الحروب التي أعقبت بداية الألفية الثانية، وعلى رأسها حروب غزة الكثيرة، وحطَّ رِحاله شذراً -نظراً لتأخر الوقت حيث كنت من ضمن ثلة من الأصدقاء- في حرب الأيام الخمسة الأخيرة، التي سُمِّيت «ثأر الأحرار»، مشيراً إلى «خمسٍ بخَمس»، وفي الخمس الثانية، غمزٌ رمزي من قناة حرب النكسة عام ١٩٦٧ من القرن الماضي، التي تسمّى في الواقع بحرب الأيام الستة، لكنَّ يوماً زائداً حينها، بيوم ناقص في حيننا، ليس بالأمر الذي يُتوقف عنده كثيراً.
المقارنة هذه لفتتني واستوقفني واستولت على تفكيري بعضَ الشيء، فأخذتُ أقلِّبها في رأسي ظهراً لبطن. مما لا شك فيه، أنَّ ما يفعله الفلسطينيون، بإمكانياتهم المتواضعة، وقدرتهم المحدودة عسكرياً وجغرافياً وسياسياً، أقرب إلى الإعجاز، ولم يكن ليصِّدقه أحدٌ ربما، لو قيل قبل عقدين من الزمن. مَن يصدِّق أن إسرائيل التي هزمت كلّاً من العراق ومصر وسوريا والأردن في حزيران عام 1967، واحتلَّت غزة والضفة الغربية، بما فيها شرق القدس، فضلاً عن سيناء والجولان وجنوب لبنان، تعجز أمام شريط ضيِّق اسمه قطاع غزة، خالٍ من التضاريس ومتطلَّبات المناورة، ويمتد فقط على مساحة 360 كلم مربع، بطول 41 كلم، وعرض يتراوح بين 5 و15 كلم!
إسرائيل التي أوقعت في حرب الأيام الستة، أكثر من 25 ألف شهيد من القوات العربية، ودمرت أكثر من 80% من العتاد الحربي لجيوش الدول العربية، وهجَّرت مئات الآلاف من الناس، وقلَبت موازين الصراع رأساً على عقب، مَن يتوقع أن هذا الكيان المحتلَّ نفسه، سيفشل عام 2023 - رغم استعانته بكل أدوات الإجرام الموصوف- في تدمير البنية العسكرية للمقاومة في غزة، وفي إيقاف الصواريخ التي تسقط بإحداثياتها ومدياتها وتوقيتاتها، على المواقع والمستوطنات من بئر السبع إلى تل أبيب، وأبعد من ذلك، بل ويُوقِّع على نص اتفاق صاغته الأيدي القابضة على الزناد.
أي تحوُّل هذا الذي تكون المقاومة الفلسطينية فيه صاحبة عنوان «الطلقة الأخيرة»، وقواعد: «القصف بالقصف»، و«القدس بالقصف»، و«الاغتيال بالقصف» إلخ، من دون أن نُغفل الإشارة إلى تفصيل محوري، مفاده أن الاحتلال لم يعد يجرؤ على الحديث عن اجتياح عسكري، لمعرفته حُكماً بالتكاليف الباهظة التي ستترتب على حماقة غير محسوبة من هذا القَبيل.
من هذه الزاوية، تذكرت كلاماً لبعض علماء النفس، يقولون من جملته، إنَّ «من يتحدث كثيراً يُنجز قليلاً»، وما جلسات تقدير الموقف لقادة الاحتلال، وتصعيد اللهجات الخطابية الشعبوية، إلا دليل على قلة الإنجاز وضعف الحيلة.
منير شفيق متفائل، وأنا مثله، وليس مستبعداً أن نعيش لنرى انفراط عقد إسرائيل، وسقوط عمرانها كأحجار الدومينو.