انتهت معركة «ثأر الأحرار»، إلا أن البعض شعر بأن إسرائيل خرجت منتصرة منها، باغتيال 6 قيادات عسكرية بارزة في «سرايا القدس»، الذراع العسكرية لحركة «الجهاد الإسلامي»، وأن المقاومة لم تحقق ما أرادته بإلزام إسرائيل بوقف سياسة الاغتيالات وإعادة جثمان الشهيد خضر عدنان. بالنسبة إلى البعض، فإن الأوضاع الحالية عادت إلى ما كانت عليه قبل ليلة الاغتيال في التاسع من الشهر الجاري، وما جرى هو تكرار للسيناريو نفسه للجولتين السابقتين. الأولى، بعد اغتيال قائد لواء الشمال في «السرايا» الشهيد بهاء أبو العطا في العام 2019، والثانية بعد اغتيال خليفة أبو العطا، الشهيد تيسير الجعبري، وقائد لواء الجنوب الشهيد خالد منصور، في آب الماضي.قد يبدو للوهلة الأولى أن جزءاً من هذا الكلام صحيح. السيناريو نفسه تكرر ثلاث مرات، والغدر الإسرائيلي تكرّر لثلاث مرات ضد «الجهاد»، فلماذا لم تتخذ قيادات المقاومة أي إجراء لحماية نفسها، وهل كانت هناك تطمينات محلية أو إقليمية للحركة بأنه لا يوجد أي تصعيد إسرائيلي قريب؟ أسئلة كثيرة يمكن طرحها على هذا الصعيد، وذلك من باب الحرص على قيادات المقاومة كي لا تكون هدفاً سهلاً للعدو. إلا أنه من المعلوم بأن العدو الإسرائيلي يملك أقوى أجهزة استخبارات في العالم، أجهزة فعالة لدرجة أن تطلب منها دول مثل الولايات المتحدة الأميركية تنفيذ عمليات اغتيال في أماكن لا تستطيع أميركا نفسها الوصول إليها. إذاً، من يملك هذه القدرة الاستخباراتية فإن ساحة مثل قطاع غزة، ملاصقة له، مصنفة بأرض عدائية، هي أولوية، ومن الطبيعي أن تسعى استخبارات العدو، تحديداً جهاز الأمن العام (الشاباك)، إلى معرفة كل تفاصيله وإغراقه بالعملاء وبالرصد البشري والتقني، وإلى ابتزاز الغزيين بمعيشتهم بهدف الحصول على معلومات حول هدف تريده.
قبل عملية اغتيال قادة «السرايا» الثلاثة، جهاد غنام وخليل البهتيني وطارق عز الدين، مطلع الشهر الجاري، راقب «الشاباك» هؤلاء القادة على مدى ثمانية أشهر، وذلك بحسب ما كشفته القناة 12 العبرية، إذ قالت القناة إن «عمليات الاغتيال مثل هذه هي عمليات مخطط لها، وليست عملاً ينفذ بقرار لحظي. المؤسسة الأمنية درست تصرفاتهم وأسلوب حياتهم بشكل جيد، على سبيل المثال من هم الأشخاص القريبون منهم وكيفية تحركهم من مكان إلى آخر».
إسرائيل معروفة بأنها لا تخرج إلى عمل عسكري أو أمني من دون أن تكون قد تيقّنت من اكتمال الصورة الاستخبارية لديها عن الهدف. لذلك لا تمانع إسرائيل من انتظار مدة طويلة لجمع المعلومات التي تريدها. وبحسب القناة العبرية فإنه «في اللحظة التي تمت فيها معرفة أماكن الشقق الآمنة (السرية) للقادة، جُمعت معلومات دقيقة، مثل الطابق والمكان الدقيق الذي يمكثون فيه. المعلومات الاستخبارية تشمل أيضاً تفاصيل عن المبنى نفسه، عدد الطوابق، عدد الشبابيك، هل يحتوي على بدروم». وشرحت القناة أن «المعلومات يتم جمعها من مصادر استخبارية عدة: عملاء في الميدان، استخبارات تقنية مثل الإشارات الصادرة عن الأجهزة الإلكترونية التي تحملها الأهداف، استخبارات بصرية عبر الطائرات المسيرة التي تحلق في أجواء القطاع، وهكذا يتم التعرف إلى مسارات تحرك الهدف. بعد استكمال الصورة الاستخبارية، تنقل المعلومات لسلاح الجو، ووفقاً للمعلومات الاستخبارية يتم تحديد نوع الذخيرة التي تستخدم في الهجوم». إذاً، نحن نقاتل هذا العدو، الذي يملك كل هذه المقدرات الأمنية المسخرة له لمواجهة تنظيمات صغيرة.
مجرد وقوف شخص أعزل معترض أمام آلة الحرب هذه هو انتصار بحد شذاته، فكيف إذا استمرت المقاومة في إطلاق الصواريخ حتى اللحظة الأخيرة


أمّا على الصعيد العسكري، فقد صُنّف جيش العدو الإسرائيلي، بحسب موقع «غلوبال فايربور» المتخصص في الشؤون العسكرية، في المرتبة الرابعة من بين أقوى الجيوش في الشرق الأوسط لعام 2023، وذلك بعد تركيا، ومصر وإيران. يبلغ عدد أفراد الجيش الإسرائيلي 635 ألف جندي بينهم 170 ألف جندي فاعل و465 ألف جندي في قوات الاحتياط. يمتلك 595 طائرة حربية متنوعة، منها 241 مقاتلة و23 طائرة هجومية، و15 طائرة شحن عسكري، إضافة إلى 154 طائرة تدريب، و23 طائرة لتنفيذ مهام خاصة و128 مروحية عسكرية منها 48 مروحية هجومية، ويوجد 42 مطاراً صالحاً للاستخدام لدى إسرائيل. كما يمتلك الأسطول الإسرائيلي 65 قطعة بحرية منها 5 غواصات و48 سفينة دورية، بالإضافة إلى 4 طرادات. أمّا في سلاح البر، فيمتلك جيش العدو 1650 دبابة و7500 مدرعة و650 مدفعاً ذاتي الحركة و300 مدفع ميداني، إضافة إلى 100 راجمة صواريخ. كانت ميزانية الدفاع الإسرائيلية في العام الماضي 16.6 مليار دولار.
على صعيد منظومات الدفاع الجوي، تنتج إسرائيل عبر شركة «رفائيل» أنظمة مثل «القبة الحديدية» و«مقلاع داود»، و«منظومة السهم» بالتعاون مع الولايات المتحدة. كما تطوّر أيضاً أشعة ليزر لتعزيز دفاعها الجوي متعدد الطبقات. إذ كشفت في العام الماضي عن تمكن وزارة الدفاع الإسرائيلية، بالتعاون مع شركة «Elbit Systems»، من تطوير سلاح بتقنية الليزر المحمول جواً، قادر على اصطياد الطائرات المسيّرة من السماء، بالإضافة إلى أهداف طيران أخرى، وسيعمل نظام أشعة الليزر على استهداف الصواريخ التي يقل مداها عن سبعة كيلومترات، بتسخينها ومن ثم تدميرها. وتمتلك إسرائيل، بحسب مجلة «the military balance» الصادرة في العام الماضي، 10 منظومات قبة حديدية للتصدي للصواريخ ذات مدى 5 و70 كيلومتراً، وكل منظومة لديها منصات إطلاق عدة، وكل منصة إطلاق تطلق 20 صاروخاً، ومقابل كل صاروخ يطلق من غزة فإن القبة تطلق ما يقارب صاروخين أو ثلاثة للتصدي لصاروخ واحد. كما تمتلك إسرائيل 3 بطاريات من منظومة السهم و4 بطاريات «باتريوت» وبطاريتين «مقلاع داود».
أمّا نظام «مقلاع داود» الذي تنتجه «رفائيل» بالتعاون مع شركة «رايثيون» الأميركية، فهو لإسقاط الصواريخ ذات مدى 70 إلى 300 كيلومتر، والمنتظر أن يحل محل منظومة «باتريوت» الموجودة في إسرائيل حالياً حين يكتمل إنتاجه واختباره بشكل شامل. كما تمتلك منظومة «السهم الدفاعية»، والتي أنتجت منها «السهم-1» و«السهم-2» خلال التسعينيات وتم تفعيلهما عام 2000 ضد الصواريخ بعيدة المدى، والأهم منظومة «السهم-3» التي أنتجت أخيراً من شركة الصناعات الجوية والفضائية الإسرائيلية بالاشتراك مع شركة «بوينغ» الأميركية عام 2008، وتستطيع اعتراض الصواريخ خارج الغلاف الجوي.
واجهت المقاومة الفلسطينية آلة الحرب هذه، أو جزءاً منها. واستطاع أصغر تنظيم في محور المقاومة، وذلك كما يعتبره العدو الإسرائيلي، من المناورة على منظومات الدفاع الجوي الإسرائيلي. على مدى خمسة أيام قصفت «سرايا القدس» وفصائل الغرفة المشتركة، العمق الإسرائيلي، وفي الساعة الأخيرة قبل دخول الهدنة حيز التنفيذ أطلق ما يقارب الـ100 صاروخ تجاه مناطق ريشون ليتسيون وتل أبيب.
هل انتصرت إسرائيل في هذه المعركة؟ بالتأكيد لا، مجرد وقوف شخص أعزل معترض أمام آلة الحرب هذه هو انتصار بحد ذاته، فكيف إذا استمرت المقاومة في إطلاق الصواريخ حتى اللحظة الأخيرة.
هل هزمت المقاومة؟ بالتأكيد لا، لكنها تلقت ضربة قوية إلا أنها أثبتت قدرتها على الإدارة والسيطرة في الميدان على رغم فقدان قادتها الميدانيين.
هل ارتدعت إسرائيل؟ بالتأكيد لا، وهي ستنفذ بعد فترة عملية اغتيال أخرى بحجج قديمة، إلا أنها قبل تنفيذها عملية الاغتيال ستكون قد فكرت مئة مرة قبل الخروج إلى تنفيذ عملية.
هل انتصرت المقاومة؟ بالتأكيد نعم، لأن الفعل المقاوم هو عمل تراكمي مستمر وغير محصور بجولة أو بمعركة، ولأن إسرائيل تدرك أن سياسة الاغتيال لن تردع المقاومين، وأن تل أبيب ستبقى تحت مرمى نيران المقاومة، وأن جولة التصعيد المقبلة لن تكون بعيدة، وهو ما عبّر عنه رئيس «الشاباك» السابق يوفال ديسكين في مقال على موقع «n12» بالقول: «أقترح علينا جميعاً أن نتجهز لموجة "الإرهاب" المقبلة و/أو جولة إطلاق القذائف المقبلة، لأنها ستأتي، في يوم النكبة، أو مسيرة الأعلام القريبة، وإن لم تحدث، فبعد وقت قصير. وحينها، سيكون هناك مؤتمر صحافي أيضاً، حيث سيقف رئيس الحكومة ويشرح لنا عن أهمية الاغتيالات الناجحة الأخيرة، وعن قدرتنا على إلحاق الضرر بأعدائنا في كل مكان والكثير من الشعارات المستنفَدة والكاذبة والمتّبعة. وسيكون من الجيد أن تتذكروا، حينها، أنه لم يتغير شيء، ومن الجيد أن نتجهز مرة أُخرى للجولة المقبلة بأسرع ما يمكن».