خوف كبير وضياع، وأصوات أحاديث كثيرة، خطط وتحليلات، وأطفال باكية، عائلات ترحل على عجالة، هكذا كانت الحال في 28 نيسان عام 1948، اليوم الذي خرجت فيه الطفلة رحمة بامية، ذات الـ 10 أعوام، من مدينتها يافا. نزحت، تحت القصف، هي وأفراد عائلتها، عن المدينة، بالتزامن مع بدء دخول العصابات الصهيونية. ما خطر على بالها يومها أبداً، أنها ستودع الحياة الجميلة كما عهدتها للأبد، حتى ألعابها تركتها بسلام بلا وداع، فهي عائدة لتلك الدار بعد يومين أو ثلاثة أيام كما أخبرها الجميع. اليوم، وبعد 75 عاماً، رحمة، التي أصبحت جدة، في الـ85 من العمر، تعيش في دمشق، ولا تزال تتذكر مدينتها يافا بعين وقلب الطفلة: «أنا من مدينة بيقولولها عروس البحر الأبيض المتوسط، مدينة قمة بالجمال، شوف صورها عالإنترنت يا تيتة، أخدوا أحلى البلاد».
سفر الخروج
كانت يافا من أشرس المدن التي قاتلت في وجه العصابات الصهيونية، رغم قلة الإمكانيات مقارنة بالعصابات الصهيونية التي زودها الانتداب البريطاني بالعربات المدرعة والطائرات والأسلحة الرشاشة، بوجه بنادق قديمة اشتراها المتطوعون الفلسطينيون من أموالهم لحماية مدينتهم. يذكر التاريخ أن امرأة فلسطينية، تدعى مهيبة خورشيد، قادت المتطوعين والمتطوعات، خلال معارك التصدي للزحف الصهيوني باتجاه يافا، وخلال الأسبوع الأخير من نيسان 1948 اشتد القصف على المدينة وتمكنت العصابات الصهيونية من دخولها بعد استشهاد عدد كبير من المدافعين عنها، ومقتل العشرات من نساء وأطفال جراء القصف العنيف، وطرد الأهالي بحراً إلى لبنان، وبراً باتجاه شرق وجنوب فلسطين.
تصف أم خالد حالة الضياع والفوضى يوم الخروج بلهجتها اليافاوية: «الله ياخد اللي طلعونا وينتقم منن. يوميتا طلعنا بسيارة التاكسي وبالزور وسعتنا وأبوي شلح القشاط وربط الباب لأنو ما قدرنا نسكرو وطلعنا من يافا». تفرقت العائلة التي عاشت على مدى عشرات السنين في بيت واحد؛ زوجة والدها لجأت مع عائلتها وأولادها إلى البحر، أمّا رحمة وإخوتها ووالدهم فاستقلوا السيارة المتوجهة إلى مدينة غزة. لم تشأ العائلة الفلسطينية أن تغادر وطنها فتمسكت بأمل العودة إلى يافا، بخاصة مع وصول أنباء عن قدوم الجيوش العربية (جيش الإنقاذ). ظنّت العائلة أنها مسألة أيام، لم يخطر في بال رحمة، الطفلة آنذاك، أن الأمر سيطول لتبلغ من العمر عتياً: «لجأنا في بداية الأمر إلى مدينة غزة، واستأجر والدي منزلاً على الشاطئ. مكثنا فيه شهرين على أمل العودة إلى منزلنا في يافا، ويوماً بعد يوم كان الأمل يتضاءل، بخاصة أننا لم نكن نسلم من القصف، كان الطيران الصهيوني يغير بشكل شبه يومي على غزة. كنا نهرب من المنزل ونختبئ أنا وإخوتي بين قوارب الصيد على الشاطئ ونبقى هناك إلى حين انتهاء الغارة».
بعد 75 عاماً، رحمة، التي أصبحت جدة، في الـ85 من العمر، تعيش في دمشق، ولا تزال تتذكر مدينتها يافا بعين وقلب الطفلة


رحلة التيه أربعين يوماً
بعد شهرين وأكثر قضتها عائلة بامية في قطاع غزة، وبعد تفرق أفراد العائلة، فمنهم من ذهب عبر البحر إلى لبنان ومن ثم دمشق، كان لا بد أن يلتم شملها مجدداً. وضبت العائلة أغراضها على عجل، وقطعت الطريق إلى رفح جنوب غزة، ومنها إلى العريش، ومن ثم إلى منطقة القنطرة على الحدود مع مصر. هناك، منع حرس الحدود المصري، بأوامر من الملك فاروق، دخول الفلسطينيين، فاضطرت العائلة، برفقة عدد من العائلات القادمة من المدن الفلسطينية الكبرى التي احتلتها العصابات الصهيونية، إلى افتراش الصحراء تحت الشمس الحارقة، بجانب الطريق المؤدية إلى الأراضي المصرية. تقول أم خالد: «كان عابرو الطريق يجلبون لنا ما تيسر لهم من الخبز والطحين والماء، نسد فيه رمقنا، حيث نصبنا خياماً من ملابسنا نلجأ إليها هرباً من الشمس الحادة وغبار الصحراء، وكان الشباب يقضون نهارهم باحثين عن بقايا الأشجار والأغصان تحت الرمال، لنشعلها ليلاً لنحصل على بعض الدفء، وكي تبعد النار عنا خطر وحوش الصحراء، وعلى هذه الحالة قضينا أربعين يوماً».
بعد تلك الأيام العصيبة في الصحراء، عادت العائلة إلى غزة ولجأت إلى أحد البيوت، أمّا الوالد عبد القادر بامية (أبو زياد) فاضطر إلى الذهاب للبحث عن زوجته وبقية أولاده الذين خرجوا عبر البحر من يافا متجهين إلى لبنان، وبعد رحلة بحث طويلة تجاوزت الشهر، وصلت رسالة من أبو زياد إلى أولاده في غزة يخبرهم بأنه وجد زوجته وأطفالها في دمشق، وطلب منهم المجيء إلى هناك: «عملنا على الحصول على جوازات سفر أنا وإخوتي من حكومة عموم فلسطين بمساعدة بعض أقاربنا الذين كانوا موجودين في غزة، ثم استقلينا إحدى الطائرات التي كانت تنقل الفلسطينيين الذين هجروا عن مدنهم إلى لبنان، ومن هناك التقينا بأحد أصدقاء والدي الذي أوصلنا من بيروت إلى دمشق، فالتم شمل العائلة من جديد، بعد أشهر طويلة، لكن هذه المرة مع صفة جديدة سترافقنا على مدى أعوام طويلة وهي صفة اللاجئ، وما يترتب عليها من فصول المعاناة».

«جواز السفر لسا بالخزانة»
تعيش رحمة (أم خالد) اليوم بأحد أحياء دمشق القديمة (حارة اليهود، أو حي الأمين) وهو الحي ذاته الذي سكنته مع عائلتها قبل زواجها: «اجيت من يافا على حي الأمين، وما بطلع منو إلا على يافا، وهياتو جواز السفر لسا محتفظة فيه بالخزانة»، في إشارة إلى وثيقة الجواز الصادرة عن حكومة عموم فلسطين، والتي غادرت بها مدينة غزة قبل 75 عاماً، شأنها شأن ملايين الفلسطينيين المنتشرين في الشتات حول العالم، ومنذ ذلك الحين وهي تنتظر استخدام جوازها مرة أخرى خلال رحلة العودة إلى بيتها في يافا القديمة.