أكتب هذه السطور عن نكبة فلسطين، وصواريخ المقاومة الفلسطينية تنطلق من قطاع غزة، بعد الجريمة التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي باغتيال ثلاثة من القادة العسكريين لحركة الجهاد الإسلامي، وهي قصتنا ونكباتنا مع الاحتلال، تروى من جديد عبر الدم الفلسطيني، في ظل مواقف عربية باهتة، تذكّرني بمناسبة ما نريد الحديث عنه في ذكرى النكبة، وبما تحدث عنه المناضلون في مذكراتهم، خصوصاً عن الموقف العربي بعد صدور قرار التقسيم في 29 تشرين الثاني عام 1947.تلك هي بداية نكبتنا الحقيقية كفلسطينيين، عندما لم يتخل العرب عن فلسطين، بل تآمروا عليها، وإن كان البعض أرّخ للنكبة منذ إعلان الاحتلال لدولته المزعومة عام 1948.

1948
يصف عارف العارف في كتابه «النكبة... النكبة؛ نكبة بيت المقدس والفردوس المفقود 1947–1949» (مؤسسة الدراسات الفلسطينية 2013)، حال المقدسيين وفلسطين بعد صدور قرار التقسيم: «كان لقرار التقسيم أسوأ الوقع عند العرب، وأحسنه عند اليهود،... ولم يكن في القدس يومئذ سوى نفر قليل من شبان العرب المسلحين لا يجاوزون عدد أصابع اليد… هكذا كان الوضع، لا القدس وحدها، وإنما في سائر أنحاء فلسطين عندما صدر قرار التقسيم: شعب أعزل لا سلاح لديه… تلطمه هيئة من أكبر الهيئات الدولية بأظلم وأقسى قرار عرفه التاريخ» (ط2، الجزء الأول، ص28-30).
وعلى الرغم من صدور قرار عربي بعد اجتماع الجامعة العربية في 8 كانون الأول 1947 بالقتال، فمن اللافت جداً أن العرب قد أبلغوا العالم بذلك عبر بيان: «فإنهم (العرب) قد وطدوا العزم على خوض المعركة التي حملوا عليها وعلى السير بها حتى نهايتها الظافرة بإذن الله، فتستقر مبادئ الأمم المتحدة في نصابها السليم» (النكبة 1\33).
أمّا إذا كان العرب جادين، فيقول المناضل بهجت أبو غربية في مذكراته: «يؤسفنا أن نقول إن الحكومات العربية التي كانت خاضعة للنفوذ البريطاني ولا تستطيع مخالفة خططها، لم تكن صادقة في رفضها لقرار التقسيم، وإنما أعلنت رفضها للاستهلاك المحلي… وهناك الكثير من الأدلة على أن معظم الحكومات العربية كانت موافقة على التقسيم بصورة غير رسمية، ومتفاهمة على ذلك مع بريطانيا» («في خضم النضال العربي الفلسطيني: مذكرات المناضل بهجت أبو غربية، 1916 - 1949»، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1993، ص146).
ولترسيخ قرار التقسيم الذي رفض فلسطينياً وعربياً، آنذاك، بدأ الإعداد للحرب وللمجازر الصهيونية بحق الفلسطينيين، وكان من المؤسف فعلاً أن العصابات الصهيونية قد أعدت نفسها جيداً لذلك، خصوصاً أن سياسة الهجرة اليهودية إلى فلسطين كما يقول المؤرخ وليد الخالدي في كتابه «تقسيم فلسطين»، خدم الاحتلال لجهة السكان اليهود القادرين على الخدمة العسكرية وحمل السلاح، وفي اليوم التالي لصدور قرار التقسيم دعت «الهاغناه» فئة الأعمار بين 17- 25 عاماً إلى الخدمة العسكرية، وهي مدججة بالأسلحة في ظل عهد الاستعمار البريطاني، كذلك أعلنت الوكالة اليهودية في الـ17 من كانون الأول عام 1947 عن حملة لجمع 250 مليون دولار تبرعات من الجالية اليهودية، أمّا حال الفلسطينيين، فلم يكونوا مهيئين للقتال، ولم تعد الهيئة العربية العليا جيداً لذلك اليوم (وليد الخالدي، تقسيم فلسطين، ط1، 2021، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ص 79-80).
لم يتغير الواقع العربي كثيراً بعد نكبتنا في الماضي، بل ازداد سوءاً بفعل اتفاقيات التطبيع مع الاحتلال، لكن ما تغير كثيراً هو حال الفلسطينيين


التطهير العرقي
أمّا الأساليب التي اتبعتها العصابات الصهيوينة، فالمؤرخ الإسرائيلي الشهير إيلان بابيه في كتابه «التطهير العرقي في فلسطين» أوضح ذلك بما لا يدع مجالاً للشك ببشاعة ما حدث، يذكر الكاتب أن الرفض الفلسطيني والعربي لقرار التقسيم، وهو ما كانت تتوقعه القيادة الصهيونية آنذاك، جعل الصهاينة يعتبرون أن خطة الأمم المتحدة أصبحت باطلة، وبالتالي، فإن حدود الدولة اليهودية، «سوف تتعين بالقوة لا بقرار التقسيم» (إيلان بابيه، «التطهير العرقي في فلسطين»، ط1، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2000، ص 47).
ويذكر بابيه في كتابه أن التطهير العرقي، بدأ في فلسطين في أوائل كانون الأول عام 1947، بسلسلة من الهجمات اليهودية على قرى وأحياء في المدن، في خطة سميت بـ«خطة دالت»، وهي الخطة الرئيسة الممنهجة، التي هدفت من خلالها القيادة الصهيونية إلى السيطرة على أكبر مساحة مُمكنة من الأراضي الفلسطينية، وطرد أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين، وإحلال مستوطنين ومستوطنات محل الشعب الفلسطيني وقراه ومدنه، وقد استخدم الصهاينة في سبيل تحقيق ذلك، تدمير القرى والمدن الفلسطينية، وقتل المدنيين من نساء وأطفال وعجز ورجال، فرادى وجماعات، بلا رحمة وهوادة لبث الذعر، وأمثلة ذلك حاضرة في ذاكرة الشعب الفلسطينية والإنسانية كمجزرة دير ياسين والطنطورة.
وفي مشهد من الماضي، نلمح فيها حجم الصلف الصهيوني، وحال الفلسطينيين في ذلك الوقت، يذكر عادل مناع في كتابه «نكبة وبقاء حكاية فلسطينيين ظلوا في حيفا والجليل» أنه «عندما زارت غولدا مائير حيفا بعد أيام قليلة، وجدت من الصعب عليها في البداية أن تكبت إحساساً بالرعب عندما دخلت البيوت حيث كان الطعام المطبوخ ما زال على الطاولات، والألعاب والكتب التي تركها الأطفال على الأرض… وذكّرتها المناظر التي شاهدتها ذلك اليوم بأسوأ القصص التي سمعتها من عائلتها عن الوحشية الروسية ضد اليهود قبل عقود… لكن ذلك لم يؤثر كما يبدو في عزمها أو عزم زملائها على المضي قدماً لتطهير فلسطين» («نكبة وبقاء: حكاية فلسطينيين ظلوا في حيفا والجليل»، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ط1، 2016، ص 106).
ويكمل مناع «عاني العرب (الفلسطينيون) جراء تداعيات النكبة (الصدمة) ونتائجها المأساوية مدة طويلة وغلب عليهم الشعور بالفقدان والبلبلة والعجز المجبول بالغضب.... كانوا في أغلبيتهم العظمى فلاحين فقدوا المدينة ونخبها، فصاروا كالقطعان بلا رعاة، وكان عليهم التأقلم مع الواقع المأساوي والتعايش مع لغة حكامهم الجدد وقوانينهم» (ص24).

النكبة الثانية
لم يتغير الواقع العربي كثيراً بعد نكبتنا في الماضي، بل ازداد سوءاً بفعل اتفاقيات التطبيع مع الاحتلال، لكن ما تغير كثيراً هو حال الفلسطينيين، لقد اعتمد الشعب الفلسطيني على نفسه، وطبق المثل القائل «لا يحك ظهرك مثل ظفرك»، وخاض الانتفاضات والحروب، وقدم آلاف الشهداء، وقصته لم تنته بعد، مسجلاً أروع قصص التاريخ في التضحية والفداء. لقد أضحى الشعب الفلسطيني مقتنعاً، خصوصاً بعد مرور سنوات أوسلو العجاف والتي نستطيع أن نطلق عليها «النكبة الثانية» للشعب الفلسطيني، أنّ خيار المواجهة والمقاومة هو الأجدى، وأن سنوات الضياع التي انتابت الفلسطينيين، بعد النكبة الأولى، وتكررت مرة أخرى باتفاق أوسلو، قد ذهبت إلى غير رجعة؛ فما نشهده في غزة، والضفة والقدس، أوضح مثال على خيار الشعب الفلسطيني الذي يميل لمصلحة المواجهة، وأنه قد آن الأوان للسلطة الفلسطينية التي تعاني من التهميش الأميركي، والإذلال الإسرائيلي، أن تعود إلى رشدها، فالشعب في مكان وهي في مكان آخر.