وإن أبقت سلطات الاحتلال على جثمانك محتجزاً، فأنت اليوم حرّ. صحيح أنه لم يكن في استقبالك عند بوابة السجن أحد من ذويك، يتسلّمك، ويمضي بك إلى قريتك عرابة قرب جنين في الضفة الغربية المحتلة. أثناء تحرّرك، لم تحمل على الأكف، تنثر النسوة الأرزّ والورود عليك أثناء عبورك وسط الحشود التي هبّت للقائك. لن يضيق صدرك من نفسك وأنت تكرر ما تروي للصغير والكبير رحلتك مع الجوع طوال 86 يوماً.
تصميم محمد معلم

قبل تسجيلك ورفاقك الأسرى عام 2005 «براعة الاختراع» لخوض معركة الأمعاء الخاوية بصيغتها الفردية، كان الإعداد لدخول الكلّ الاعتقالي في الإضراب المفتوح عن الطعام يأخذ وقتاً طويلاً نسبياً، وغالباً ما يتم التدرج في الخطوات التصعيدية. تبدأ بإرجاع وجبة أكل معينة في نهار محدد، يليها رفض تسلّم وجبات الطعام الثلاث في يوم آخر. خلال أشهر تسبق الساعة الصفر، يتكرّر مرات ومرات إرجاع الوجبات. هو أشبه بعملية تدرب وتهيئة النفس الأسيرة وجسدها من أجل المنازلة الكبرى، مترافقاً ذلك مع جلسات توعوية يتركز بها الكلام على أهمية الحفاظ على إرث الحركة الوطنية الأسيرة وإنجازاتها. أمّا بالنسبة إليك، في معركتك الأخيرة هذه فقد دخلت المعتقل مضرباً عن الطعام بعد قرار المحتل بحبسك إدارياً في منزلك.
لم يقل لنا أحد من قادة الأسرى أن المطلب المتعلق بتطبيق اتفاقية جنيف الرابعة، الذي تصدّر لائحة المطالب للمضربين عن الطعام منذ عام 1968 إلى يومنا هذا، مطلبٌ غير قابل للتحقق. كنّا نعي ذلك، لكننا كنا نسعد حين نراه بنداً أوّلياً في قائمة طويلة متنوعة من المطالب؛ من الاعتراف بالأسرى كأسرى حرب، إلى زيادة كمية زيت الزيتون المسموح إدخاله للأسرى في السنة مرة واحدة، إلى السماح بارتداء الألوان الزاهية، أو بالحد الأدنى الخروج من تقليد اللون البني الموحد الواحد الأوحد، إلى استبدال اللحمة البيضاء باللحمة الحمراء، ذلك أن أحد المسؤولين قرأ ذات مرة أن اللحمة الحمراء مفيدة صحياً أكثر من اللحمة البيضاء، على الرغم من أن حجم الثانية أقل بكثير من الأولى: «ما بتشبع».
قلت للجلاد: «هذا الجحيم الذي تهدّدني به سوف أصرعك به وأجعله احتفالاً لي ولزملائي من الأسرى ممّن كانوا قبلي وممّن رافقتهم وعرفتهم في سنوات سجني الثمانية والذين سيأتون من بعدي»


كنا نعلم أنه لا يوجد طرف واحد على وجه الأرض في حالة نزاع مع طرف آخر كان إنسانياً إلى الحد الذي يفتح بوابة المعتقل ويقول: «اذهب، مكانك في الحرية». فما بالك في عدوّ يعمد منذ لحظة تكبيل يديك وتعصيب عينيك إلى إدخالك في ممر الوصول إلى الهلاك ببطء، يضربك بحافة الموت أو حتفه تماماً كما حصل مع شبيهك في لقب الشهادة إبراهيم الراعي «فوتشيك فلسطين» الذي قضى في أقبية التحقيق ثمانينيات القرن الماضي.
كيف تملّكتك الجرأة لتأخذ قرارك في الذهاب إلى الموت سريعاً. خطوت نحوه خطوات كبيرة. قلت للجلاد: «هذا الجحيم الذي تهددني به سوف أصرعك به وأجعله احتفالاً لي ولزملائي من الأسرى ممن كانوا قبلي وممن رافقتهم وعرفتهم في سنوات سجني الثمانية والذين سيأتون من بعدي».
لكن أخبرنا يا شيخ البطولة، لماذا لم تكتف بلقب الأسير المحرر اثنتي عشرة مرة فاخترت في المرة الثالثة عشرة لقب الشهيد. هل أردت أن ترغم جلادك على الإذعان لحقّك وأرضك في الحرية، وبقوة الموت، وأن تفرغ طريقته في قتلنا من محتواها، وتجعله هو أسير موتك بعدما صرت أنت محرّراً شهيداً.