ثمانينيات القرن الماضي، وعلى أحد أكبر مسارح الكويت، ذلك البلد الذي كان حاضناً للثقافة والمثقفين العرب آنذاك، يقف رجل ملامحه تفيض بالعنفوان، ينشد بصوت جبلي أغانيَ تهز القلوب وتؤرق مضاجع العدو، ينظر في عيون الحضور، يتوقف للحظة ويغصّ باكياً، ربما كان آخر المنضمين إلى حالة البكاء الجماعي في صالة المسرح تأثراً بأغنية «من سجن عكا» التي كان يغنيها حينها. هو حسين منذر (أبو علي) المغني الرئيسي في فرقة «العاشقين»، صاحب الصوت الذي صدح ثورةً ونضالاً: «لن أنسى هذا المشهد، كنت منسجماً بالغناء، وعندما نظرت إلى الجمهور، وجدت الحاضرين غارقين في البكاء، توقفت عن الغناء وبكيت معهم عالياً، كان الجمهور رائعاً وصادقاً ويبكي بحرقة، وشعرت بوحدة حال معه، هذا ما يميز حفلات العاشقين، كنا والجماهير نذوب معاً، تجمعنا القضية والحلم والهدف والغصّة والأسى».
أبو علي العربي
ذو الحضور الطاغي والصوت القوي، يقف على المسرح شامخاً متجذّراً فيه كشجرة زيتون يصفّق بيديه فتشتعل الصالة تصفيقاً يعلو صوته وتعلو معه أيدي الحاضرين رافعةً أعلام فلسطين. يظنه كثيرون سوري الجنسية تبعاً للكنته الشامية الأصيلة، إلا أنه ينحدر من القرى السبع اللبنانية-الفلسطينية التي حصل لاجئوها على الجنسية اللبنانية، يعيش اليوم في دمشق التي شهدت انطلاقته مع فرقة «العاشقين»، وتحديداً من مخيم اليرموك الذي بقي مقيماً فيه حتى اضطرته الحرب السورية للنزوح عنه. يقول لـ«الأخبار»: «أنا عربي وأعشق فلسطين. أعشقها عشقاً لا يوصف. دمي واسمي وعنواني عربي فلسطيني أحمل بداخلي كل المكوّنات العربية».

ولادة «العاشقين»
لا يزال صوته يصدح على خشبة المسارح العربية والعالمية منادياً باسم فلسطين والشعب الفلسطيني منذ بدايته مع الفرقة: «جاءت فكرة تأسيس فرقة العاشقين مع الأغاني التي كتبها الشاعر أحمد دحبور وقُدمت خلال مسرحية المؤسسة الوطنية للجنون والتي ألّفها الكبير سميح القاسم وأخرجها المبدع السوري فواز الساجر وقُدمت على صالة تشرين وسط دمشق عام 1977». وهو ما أكّده الشاعر الفلسطيني الراحل أحمد دحبور الذي ألّف العديد من أغاني «العاشقين»، حيث ذكر في مقالة له عام 2013 في صحيفة «الحياة الجديدة»: «كانت أغنية "اللوز الأخضر" التي لحّنها حسين نازك هي النواة الأولى لفرقة أغاني العاشقين والتي قُدمت خلال مسرحية المؤسسة الوطنية للجنون... ونازك هو من أطلق على الفرقة اسم أغاني العاشقين وكان له الفضل بتجميع أعضاء الفرقة».
بدايات مسيرة الفرقة ومسيرتها الجماهيرية الواسعة «حفلة عدن الذائعة الصيت»، كانت «علامة ونقطة تحول في جماهيرية العاشقين على المستوى العربي، حضرتها قيادات منظّمة التحرير الفلسطينية وعلى رأسهم الرئيس الراحل ياسر عرفات، إلى جانب رئيس اليمن الجنوبي علي ناصر محمد، وسفراء عدد من الدول، وحشد جماهيري واسع، لتتوالى بعدها نجاحات الفرقة في مختلف العواصم العربية والعالمية».
أيّ فرقة ملتزمة تحقق النجاح عندما تمتلك ثلاثة عناصر هي: الكلمة الصادقة واللحن الرائع والصوت الجميل، إذا كانت هذه كلّها مجتمعة هنا تبدأ النجاحات، وهو ما حقّقته الفرقة


منذر والرحابنة
ورث منذر، كما يقول، عن والده الصوتَ الجبلي القوي الذي يحمل بين طبقاته كل مشاعر الثائر الفلسطيني من حب وغضب وأسى وحنين، ووظّف هذا الصوت في خدمة الفن الملتزم الذي يناصر القضية الفلسطينية، فغنّى لثورة الـ 36 وخلّد أسماء الشهداء الثلاثة الذين أعدمتهم سلطات الانتداب البريطاني، وأشعل القلوب بمواويل الفلاح والثائر الفلسطيني، ووثّق بأغانيه أهم المراحل التي مرّت بها الثورة الفلسطينية، وفي مقدّمتها الأغنية الشهيرة لـ«العاشقين» «اشهد يا عالم علينا وعلى بيروت» التي وثّقت معارك الاجتياح الإسرائيلي لبيروت وخروج منظمة التحرير منها.
«لي تجارب فنية كثيرة في البدايات قبل العاشقين، لكنّ عشقي للأغنية الملتزمة وتحديداً لفلسطين منذ نعومة أظفاري، تغلب عليّ ودفعني إلى تبني هذا اللون الغنائي الذي تُوج بانضمامي إلى الفرقة». يروي منذر حادثة لقائه بالرحابنة في دمشق: «خلال إحدى بروفات الفرقة في معرض دمشق الدولي كنت أغني وصادف وجود الفنان عاصي الرحباني رحمه الله والسيدة فيروز، فجذب صوتي اهتمام عاصي الذي تحدث إليّ بعد انتهاء البروفة وأبدى إعجابه بصوتي الجبلي وقوته، وعرض عليَّ العمل مع السيدة فيروز، وهي فرصة يحلم بها أي فنان بالعمل مع هؤلاء العمالقة، إلا أنّي اعتذرت منه ومن السيدة فيروز لأن «العاشقين» تجسد كياني ولن أتركها ما دام الدم يجري في عروقي».


نغني للنصر
يرى منذر أن «أي فرقة ملتزمة تحقق النجاح عندما تمتلك ثلاثة عناصر هي: الكلمة الصادقة واللحن الرائع والصوت الجميل، إذا كانت هذه كلّها مجتمعة هنا تبدأ النجاحات، وهو ما حقّقته الفرقة عندما كتب كلمات أغانيها أحمد دحبور وتوفيق زياد ونوح إبراهيم ولحّنها حسين نازك وأدّيناها بأصواتنا، بالإضافة إلى العطاء من القلب النابع من إيمان أعضاء العاشقين الراسخ بفلسطين وقضيتها، وأن التحرير قادم وسيأتي اليوم الذي نحيي فيه حفلاتنا على أرض الوطن ونغني للنصر».

لمّ الشمل
يقول أبو علي: «لا أخفيكم، الأحداث السياسية التي جرت في لبنان وخروج منظمة التحرير وما تلاها من مخاضات أثّرت على مسيرة الفرقة، أدّت بالمحصّلة إلى توقفها عن العمل في بداية التسعينيات إلى أن جاء رجل الأعمال الفلسطيني مالك ملحم عام 2009 ومدّ يد المساعدة بالمال والعطاء بكل ما يستطيع وعادت الدماء تجري في عروق الفرقة مع مجموعة من الأعضاء القدامى إضافة إلى أعضاء جدد من الجيل الشاب من الفنانين والموسيقيين الملتزمين، وعادت إلى إشعال المسارح العربية من جديد بأغانيها الثورية المتمردة على الاحتلال»، ويضيف: «لكن تبقى الحفلة التي نُظمت على جزء من أرض الوطن عام 2010 بمثابة الحلم الذي بدأ يتحقق... والآن نحن موجودون ولا نزال نعطي وسنبقى نعطي إلى أبد الآبدين».

سنبقى نغني
أنجزت «العاشقين» على مدى أعوام طويلة دوراً وطنياً مميزاً وحضوراً، ووثّقت تاريخ شعب يناضل لنيل حقوقه، فغنّت للشهيد والحرية والوطن، وحملت الأغنية الفلسطينية وجالت فيها العالم ونقلت صوت الشعب الفلسطيني وقضيته إلى مختلف المسارح العالمية: «نضالنا في الفن الذي نقدمه. وستبقى القضية في عقولنا وقلوبنا وأصواتنا. نحن نغني لفلسطين. نحرر ونثور. نغني في الأعراس. نغني في الأفراح والأتراح. بكل مجال نغني وسنبقى نغني».