«اشهد يا عالم علينا وعلى بيروت»، كانت هذه الكلمات كفيلة بإشعال شوارع اليرموك عندما يردّدها الشباب خلال تظاهراتهم المناصرة لأهلنا في الأرض المحتلة والشتات وما يقع عليهم من ظلم. أغنية ملحمية تروي مشاهد من معارك الفدائيين الفلسطينيين داخل شوارع وأزقة بيروت خلال حصار العدو الإسرائيلي للعاصمة العربية عام 1982، وقام بتأديتها مجموعة من الشباب الفلسطيني والعربي الذين آمنوا بالثورة والنضال الفلسطينيَّيْن وجمعتهم فرقة «العاشقين». فرقة يصعب تعريفها، شكّلت حالة فنية وثورية خلال مراحل مفصلية من عمر الثورة الفلسطينية، وعلى مدى أعوام طويلة كانت رديفة لبندقية الثائر، فكان وقع أغانيها بمثابة الطلقة في وجه العدو، حيث وثّقت بالكلمات والصوت والجسد حكاية نضال الشعب الفلسطيني ضد كل مستعمريه ومحتلّيه.

عام 1977، على أحد مسارح دمشق، عُرضت مسرحية وطنية فلسطينية، غُنّي في مقدمتها «والله لزرعك بالدار يا عود اللوز الأخضر»، ذاعت الأغنية ودفعت المدير العام لدائرة الثقافة والإعلام في «منظمة التحرير» عبدالله الحوراني ليؤسس فرقة «العاشقين» برفقة الملحّن حسين نازك والشاعر أحمد دحبور.
انطلقت «العاشقين» من مخيم اليرموك ووثّقت عبر أغانيها محطات أساسية في تاريخ الثورة الفلسطينية المعاصرة من عمّان إلى بيروت وحصارها وخروجها منها، كما تناولت الفرقة في أغانيها الثورة الفلسطينية ضد الاستعمار البريطاني، وغنّت لانتفاضة الأرض المحتلة. شكّلت أغاني التراث الفلسطيني وألحانه مادة العاشقين الأولى واعتمدت في أدائها على الغناء الجماعي وعلى الأصوات الغنائية من الجنسين، برز منهم حسين منذر، الإخوة الهباش (محمد، خليل، خالد، آمنة وفاطمة)، مها وميساء أبو الشامات، مها دوغمان، أحمد الناجي، محمد الرفاعي، هناء منصور وآخرون.
لم تكتف «العاشقين» بصدى الصوت بل وظّفت الجسد الراقص في خدمة الأغنية الثورية لتكتمل تفاصيل الحكاية، فالرقص كان ولا يزال أحد أقدم الأشكال التي استخدمها الإنسان للتعبير عن نفسه، عن حبه، رغبته، عبادته، ثورته وغضبه. ولا يدور الحديث عن الرقصات التعبيرية التي قدّمتها «العاشقين» لجمهور أغنيتها خلال العروض على مسارح العالم، من دون استذكار مؤسس ومصمم المسرح الراقص للفرقة الفنان السوري ميزر مارديني الذي ملأ حيز المسارح التي وقفت على خشبتها «العاشقين» عنفواناً وحماساً.

هذه فلسطين... ويا نيال مين بيبذل كرمالها
«دمشقي الهوية فلسطيني الهوى»، بهذه الكلمات يبدأ مارديني حديثه إلى «الأخبار» معرّفاً عن نفسه وهو يجلس إلى طاولة اجتمع إليها ذات يوم أعضاء «العاشقين» داخل مقهى الروضة الدمشقي الذي كان محطة يومية لهم بعد عناء يوم طويل من التدريبات في مقرهم المجاور لمسرح القباني بشارع 27 أيار وسط العاصمة.
كل من عرف ميزر مارديني على خشبة المسرح عهده شاباً وسيماً يشعّ بالحيوية والطاقة، بعينيه الملوّنتين وجسده الطويل والنحيل يقفز شامخاً على المسرح مرتدياً زي الفدائي الفلسطيني، أو كما يصطلح عليه «بدلة كاكي»، ومتوشحاً بالكوفية التراثية الفلسطينية، ومطوّعاً جسده اللين في تأدية الدبكات الفولكلورية والرقصات المعبّرة عن فلسطين القضية والثورة والشعب.
يتابع مارديني ويقول: «هنا في نفس المكان وعلى هذه الطاولة المطلة على باحتي المقهى المغلقة والمفتوحة، كانت تدور النقاشات التي تبدأ بالفن الثوري والأغاني والرقصات والعروض ولا تنتهي بأحاديث السياسة».
بدأ ميزر مارديني رحلته بالمسرح الراقص ضمن فرقة «أمية» للفنون الشعبية، ثم في المسرح العسكري خلال فترة تأديته الخدمة الإلزامية حيث تدرّب على أيدي كبار الأساتذة وفي مقدمتهم الفنان حسام تحسين بيك إلى جانب كبار المسرح السوري، كما شارك في العديد من الأعمال، أهمها المسرحيتان السوريتان الشهيرتان على المستوى العربي «غربة» و«ضيعة تشرين» للكاتب السوري الكبير محمد الماغوط.
في مرحلة مبكرة من رحلته الفنيّة لفت مارديني الأنظار بأدائه الساحر على خشبة المسرح وخاصة من قبل العاملين في المسرح الغنائي، حيث أُعجب بلوحاته الراقصة الراحل محمود نابلسي أحد أعضاء فرقة «العاشقين» الفلسطينية، الأمر الذي دفع الأخير ليعرض عليه الانضمام إلى الفرقة. يقول مارديني إن «نقلة نوعيّة ساقتني إلى الفن المقاوم والثائر، وأنا لم أكن بعيداً عن فكر العاشقين وفلسطين، كنت أرى نفسي ابن القضية، شأني شأن الكثيرين من أبناء جيلي»، يستقطع حديثه محاولاً كبت المشاعر التي تعتليه، ويتابع: «كانت أحلامنا كبيرة وإيماننا أكبر بالتحرير والعودة. كانت روح الشباب والثورة تندفع في عروقنا، ولأنّي أحمل هذا الفكر رأيت الدعوة واجبة وليست عرضاً، فهذه فلسطين ويا نيال مين بيبذل كرمالها»، على وقع هذه الدعوة انتقل مارديني للانضمام إلى «العاشقين» عام 1982، والتّفرغ للعمل الوطني في صفوفها على مدى أعوام كرّس فيها حياته للفرقة ولإيصال صوت فلسطين إلى العالم.

مهرة حرّة... طالع فجرها
عمل ميزر مارديني على خلق حالة المسرح الراقص خلال العروض الغنائية التي تقدمها الفرقة، حيث شكّل مجموعة من الراقصين الشباب أدّوا لوحات من ابتكاره مستنداً بتصميمها إلى الفولكلور وعلاقة الفلسطيني بأرضه ووطنه بمختلف أشكالها قبل وبعد الاحتلال: «تصميم الرقصات كان عفوياً، حيث اعتمدت على سماع الأغاني والكلمات التي كانت توحي لي بالحالة التعبيرية للجسد الثائر على الظلم والمتعطش للحرية لتتناغم الحركات مع الكلام والألحان»، فكان مارديني يعود بلوحاته الراقصة للفطرة البدائية ورتّم الرقص الذي تناقله الإنسان الأول، حيث ينساق الجسد مع الإيقاع ليجسد طقساً أشبه بالصلاة ويطوّع فيه الأجساد لتنطق بالكلمة وتغني اللحن.
باكورة الحفلات التي شارك مارديني في أدائها وتصميم رقصاتها، هي حفلة عدن الذائعة الصيت التي نظّمتها «العاشقين» إبان خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان بحضور رئيس جمهورية اليمن الديمقراطية علي ناصر محمد والرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات وعدد من كبار قيادات الثورة الفلسطينية والوفود العربية، حيث قدّمت الفرقة أغانيَ خُلدت في الذاكرة العربية الجمعية وفي مقدّمتها «اشهد يا عالم علينا وعلى بيروت» التي عكست المرحلة العصيبة التي كانت تعيشها الثورة الفلسطينية.
كانت مفاجأة لي أن الحركة ألهمت الشاعر، وكانت سابقة أن تولّد الحركة الكلام وتكون مصدر إلهام للكلمات. هكذا كانت «العاشقين» حالة إبداعية وطنية متمرّدة على جميع القواعد لصالح الثورة وفلسطين


لطالما كان الرقص الغنائي يتبع الكلام والألحان ليطوّع الجسد بحركات تتناغم معها، إلا أنه في حالة «العاشقين» تحدث الاستثناءات، كيف لا وهي تحمل قيم أعدل قضية عرفها التاريخ، لشعب أعزل هُجر عن وطنه بقوة السلاح ليحل محله شذاذ آفاق قادمون من مختلف أصقاع العالم، يقول مارديني: «أذكر يوماً ضمن أحد التدريبات خلال محاولاتي ابتكار حركة راقصة جديدة من المخزون الوطني والثوري الذي تشرّبه أبناء جيلنا، رآني الأستاذ أحمد دحبور من بعيد أحاول خلق الحركة، تلك المحاولات كانت كفيلة لتلهمه بمجموعة من الأبيات أصبحت أغنية معروفة للفرقة صدحت فيها حناجر العاشقين وتمايلت لها أجسادهم في مختلف حفلاتهم»، يستقطع الرجل حديثه ويبدأ يدندن كلمات الأغنية التي لحّنها حسين نازك:

«مهرة حرّة... حفرة خطرة
وفارس عابس... لابس جمرة
جمرة بتكوي... ثورة بتضوي
بعزة وقوة... طالع فجرها»

يتابع مارديني كلامه بعدما ارتسمت تعابير الاعتزاز بما قدّمه خلال مسيرته: «كانت مفاجأة لي أن الحركة ألهمت الشاعر، وكانت سابقة أن تولّد الحركة الكلام وتكون مصدر إلهام للكلمات. هكذا كانت "العاشقين" حالة إبداعية وطنية متمرّدة على جيمع القواعد لصالح الثورة وفلسطين».
لا يقل تصميم الرقصات جهداً عن تأليف الكلمات وإبداع الألحان، فخلق المشهدية على خشبة المسرح بالاعتماد على حركات الجسد هو من أصعب أنواع فنون الأداء، يتكامل فيه الرقص مع الكلام واللحن والصوت مع الصورة: «كنا في ورشة عمل وتدريبات دائمة، تجد الشاعر أحمد دحبور يكتب الكلام والموسيقار حسين نازك يلحن وأنا أعمل على تصميم الرقصات وتدريب الراقصين، والراقص هنا يجب أن يوصل الرسالة بحركات معينة وفق تراتبية ووتيرة مضبوطة مع إيقاع اللحن». يتابع: «عند رؤيتي لتفاعل لجماهير خلال الحفلات كان يعتريني شعور يصعب وصفه، سعادة ممزوجة بالفخر، وكأنّ لوحة جمالية تُخلق أمامي، فترى الحضور كأنهم بدأوا بالانصهار في روح واحدة وجسد ينبض مع فلسطين وقضيتها، وكأنّي أراهم أصبحوا بندقية كبيرة في وجه العدو، لا بد أن العدو كان أكثر ما يخشاه هو حالة المقاومة الروحية تلك».


ليست الرقصة الأخيرة
رغم مرور السنين لا تغيب ملامح الليونة والمرونة عن جسده النحيل والطويل الذي نحت بالفضاء الحر حركات تعبيرية حملت بين طياتها نضال وقضية شعب. يقلب مارديني ناظريه بين وجوه الجالسين في أركان المقهى، علّه يألف أحداً ممن عاصرهم في الماضي داخل هذا المكان، تتقضّب ملامحه مع كل زاوية يخيب أمله فيها برؤية من يعرفهم، تلك قسوة الغياب الذي عاشه بعيداً عن المكان والفن، وفجأةً يدقق النظر في رجل هرم: «نعم تذكّرته، إنه صاحب المقهى! لكنه تغيّر كثيراً ونال الزمان منه ما نال، يا إلهي كم مرّ وقت طويل». يرسم الرجل على وجهه ابتسامة مريرة ويقول: «لعله يقول في قلبه أيضاً نفس الكلام عني، فأنا أيضاً نالت الأيام مني وابيضّ رأسي».
أواخر الثمانينيات، غادر ميزر الفرقة التي غابت عن المسارح في بداية التسعينيات بفترة خيّم فيها شعور الخيبة والإحباط، وعن آخر الحفلات مع الفرقة يقول: «تواصل معي حسين منذر لإقامة حفل للعاشقين في دولة الإمارات، حينها تواصلت مع طلابي وذهبنا وكالمعتاد شاركت بالرقص وصمّمت اللوحات الاستعراضية، لم أكن أدري يومها أنها ستكون الرقصة الأخيرة».
استأنفت الفرقة نشاطها عام 2010 من رام الله لكن لم يتواصل أحد من الفرقة مع ميزر حينها، وغاب العنصر الراقص عن عروض الفرقة بعد انطلاقتها الجديدة. ناصر إبراهيم، أحد تلامذة مارديني، يحافظ على التواصل معه والاطمئنان عليه بشكل دائم، إلا أن مارديني يروي بحرقة عن انقطاع التواصل مع رفاقه القدامى في الفرقة باستثناء محمد هباش الذي يتواصل معه من السويد التي هاجر إليها بعد اندلاع الحرب في سوريا.
يصف ميزر هاجسه المؤرق بنوعية أي عمل فني يُعرض عليه: «عندما يُعرض عليَّ أي عمل إذا لم يكن بالمستوى الفكري والنضالي للفن الذي كنا نقدمه في العاشقين، يجعلني أحجم عنه، الأمر الذي ضيّق الخيارات عليّ وأبعدني شيئاً فشيئاً عن هذا الفن رغم ولعي الكبير، وصولاً إلى الحالة التي أعيشها اليوم، مثلما يقولون أعيش على أمجاد الماضي، العالم تغيّر وللأسف مفاهيم كثيرة تغيّرت، إلا أنني لا أندم على شيء، بل أفرح بالتزامي بمعاييري الكلاسيكية كما يقول لي البعض ممازحاً».

«هذا أنا»
كما تمتد القضية وتتخلّد من جيل إلى جيل، كذلك الفن والرقص، تلك الأمور السامية تعبر الأجساد والأجيال وتسري في الجينات؛ يتحدّث الرجل بفرح كبير عن أصغر أحفاده خالد، الذي لمس لديه جينات موهبة الرقص التي انتقلت إليه. وإذا ما يشجع حفيده على الدخول في هذا المجال، يقول: «بالطبع، أشجعه على الدخول إلى عالم هذا الفن، شريطة أن لا يتعارض مع دراسته، وخاصة إذا كان فناً ملتزماً يحمل قضايا إنسانية محقّة، كما حملها جدّه في الماضي».
يخرج مارديني هاتفه الجوال الذي يحتفظ في داخله بما تبقّى له من صور الماضي خلال العروض المختلفة في العديد من البلدان، يشير إلى الصور ويروي قصصها بتأثر كبير يحاول إخفاءه وراء دخان السيجارة التي أشعلها. تمر بينها صورة لمنزله الذي امتلأت جدرانه بصور تجمعه برفاق الماضي وكأنّه لا يزال يمسك بأيديهم ويرقص معهم متخطياً قوانين الفيزياء وشروطها: «هذا أنا، وما زال لديّ ما أقدمه للعاشقين وفلسطين». يضيف شارحاً: «كان انتماؤنا إلى الفرقة والقضية أبعد من مجرد عمل، كان جوهر الحياة، ولا يزال، فالفن الملتزم طالما كان خطاً ونهجاً سامياً، ومن يسير فيه ويتبناه يغدو من الصعب عليه التخلي عن هذا الفن، وخاصة أننا كنا نتبنى قضية وفكرة ولم نفكر في التربّح المادي، عيوننا كانت ولا تزال مسمّرة على فلسطين وأبناء شعبها وكفاحهم»، يختم بالقول: «لديَّ إيمان كبير بتحقيق حلمي بزيارة فلسطين».