ما إن هرّبت سيارة الشاباك الأسير المحرر كريم يونس عن أعين المنتظرين حريته عند مدخل سجن هداريم، فتركته وحيداً في ساعات الصباح الأولى عند مفترق طريق رعنانا في فلسطين المحتلة، حتى انتقل لقب «عميد الأسرى» إلى ابن عمه ماهر. سبق كريم ماهر إلى أقبية التحقيق أوائل كانون الأول من عام 1983 وكذلك فعل في الوصول إلى بلدته بعدما أتم 40 عاماً خلف القضبان. العائد الجديد إلى عارة سيسلّم اللقب إلى أسيرين آخرين، هما إبراهيم أبو مخ ووليد دقة من باقة الغربية وهما مصابان بالسرطان ومعتقلان منذ آذار عام 1986.

لن تحتاج إلى الصراخ في باحة سجن عسقلان بحثاً عن أبو أيمن، يكفي أن تزيح بنظرك على الأسرى وهم يسيرون بشكل دائري حول نخلة تنتصب وسط «الفورة» كي ترى شاباً حليق الرأس ممشوق القامة يسير بخطى سريعة أقرب إلى الهرولة، يقطع عرض الساحة من وسطها قادماً من مطبخ السجن، حيث تسلّم مرات ومرات مسؤولية الإشراف على إعداد الطعام لنزلاء السجن، ليدخل إلى المكتبة حيث يعقد ممثلو الأسرى اجتماعاتهم. تستوقف ماهر المتأخر أصلاً عن الاجتماع والذي اشتهر بأفضل «طاهٍ للمقلوبة الفلسطينية» كمية من الأسئلة «شو الأكل اليوم يا أبو أيمن»، «في مقلوبة اليوم؟»، «ما بدنا زوربيحة - شوربة السجن الدسمة جداً والتي يمقت تناولها الأسرى، لكنها أضحت أحد معالم المعتقل –».
الرجل الذي يتقن العبرية بشكل ممتاز اعتبر بمثابة مرجعية قانونية، يكتب كتاباً موجهاً إلى إدارة السجن، يعرف مسبقاً أنها سوف ترفضه، ويحضّر جانباً نص الاعتراض على الرفض، ويقوم بتوجيهه عبر البريد إلى المحكمة المركزية في بئر السبع.
عندما كنا في سجن عسقلان أوائل التسعينيات من القرن الماضي، وبالتنسيق بين الأسرى، تقدمنا بطلب من إدارة السجون للسماح لنا بإجراء مكالمات هاتفية من السجن في محاولة لانتزاع مطلب كان يتصدّر مطالب الأسرى في كل مناسبة. رغبت في الاتصال بأخي في النمسا، بينما أراد صلاح شحادة الحديث مع والدته في غزة، سمير القنطار طلب التكلم مع أستاذ المادة التي يدرسها عبر المراسلة مع الجامعة العبرية المفتوحة، أمّا ماهر فقد كان يريد الاطمئنان إلى والدته المريضة في عارة والتي انقطعت عن زيارته بسبب مرضها. يومها رفض الطلب وأحيل الاعتراض إلى المحكمة المركزية في بئر السبع، التي نظرت بالأمر من جانب مدني، أثارت موافقة المحكمة المركزية غضب الأجهزة الأمنية الإسرائيلية ومصلحة السجون، التي طعنت بقرار المركزية فتوجهنا جميعنا إلى محكمة العدل العليا في القدس. كان ماهر مبتسماً طوال الوقت بالإنجاز الذي تحقق، اعتبر أن إدخال مصلحة السجون ووزارة الأمن الداخلي في منازعة قانونية مع المحكمة المركزية أمام محكمة العدل العليا مسألة في غاية الأهمية. «يكفي أننا عم نغلبهم ونشغلهم ببعضهم البعض» يقول ماهر، قبل أن يلتفت ويشير إلى قبة المسجد الأقصى، تبدو من نافذة قاعة المحكمة التي حددت يومها معايير إجراء الاتصالات الهاتفية «الرسمية» من داخل السجن، وحصرتها في حالة وفاة أحد الأقارب من الصف الأول مع إعطاء الأولوية قبل البت بالطلب، للتحذيرات الأمنية كحالة الأسير أو المكان الذي يجري إليه الاتصال.
«الرحالة» الذي يحمل «شنطته» الصغيرة قضى سنوات اعتقاله، والتي تعادل نصف عمر احتلال إسرائيل لفلسطين، متنقلاً بين السجون الأمنية، حيث دوّن في كل واحد منها حكايته


«الرحالة» الذي يحمل «شنطته» الصغيرة قضى سنوات اعتقاله، والتي تعادل نصف عمر احتلال إسرائيل لفلسطين، متنقلاً بين السجون الأمنية، حيث دوّن في كل واحد منها حكايته. مرّ على سجن هداريم وشطة والرملة وعسقلان وتنقل بين مجمع السجون في بئر السبع، فتواجد في قسم 2 وفي «أوهلي كيدار» و«أشيل» وبها كان يحمل ألقابه، تراه «المتحدث باسم الأسرى» و«الطاهي» و«الباش كاتب» و«عضو اللجنة الوطنية للأسرى»، يخرج للتفاوض مع الإدارة لتحقيق مطالب الأسرى المضربين عن الطعام في «معركة الأمعاء الخاوية»، يتحول إلى أستاذ فيفتح صفاً صغيراً لمجموعة من الأسرى لتعليمهم اللغة العبرية، يتسلم نظراً إلى انفتاحه السياسي وتحرره من التزمت الحزبي والحركي، إدارة نقاش في حلقة تثقيفية تعقد في باحة السجن بين مجموعة متنوعة من الأسرى. تمايز ماهر في عز الأزمات والضياع الذي شعر به الأسرى بأنهم تركوا لمصيرهم. فكان يدير نقاشاً عميقاً هادئاً يتناول فيه كل القضايا، بما فيها تلك الخلافية. من الموقف من البندقية والسلطة والتسوية إلى مسائل الديموقراطية وحقوق الإنسان.
ماهر في عسقلان هو نفسه ماهر في السجون الأخرى. هو الاجتماعي المقرّب من كل الأسرى، يسعى إلى التعرف على هموم زملائه، ويحاول أن يخفف عنهم من وطأة ظروف القيد، مستلهماً من تجربته العبر. يذكّرك كيف وقف غير مبال بصدور الحكم بإعدامه شنقاً، ومن ثم تخفيضه إلى المؤبد. وهو المناضل الذي يعرف كيف يختار معركته. فحين مرّ على سجن جلبوع في الشمال خاض وحده في شباط من عام 2013 إضراباً مفتوحاً عن الطعام، استمر لمدة عشرة أيام، وكانت غايته تسليط الضوء على قضية الأسرى وخصوصاً الأسرى من فلسطين المحتلة عام 1948، وهو أيضاً الأكاديمي.
فالشاب «الفتحاوي» الذي اعتقل من على مدرجات قاعة المحاضرات في جامعة بن غوريون في بئر السبع، سيتابع دراسته في الجامعة المفتوحة. يدرس اختصاص العلوم السياسية وعلم الاجتماعيات، يستغرقه ذلك الكثير من السنوات، فغالباً ما كانت إدارة السجن تلجأ إلى نقل تعسفي للأسرى عشية إجرائهم الامتحانات الجامعية عن طريق المراسلة، ويحرم ماهر أسوة برفاقه من تقديم الامتحان بسبب انتقاله من سجن إلى آخر، الأمر الذي يضطره إلى إعادة دراسة المادة من جديد.
ماهر، يا أيها العائد إلى عارة، وإن تجاوزت طريقة الإفراج عنك، وتنغيص المحتل عليك وعلى أهلك ومحبيك فرحتك بحريتك. أصرّ على حمل علم فلسطين تحدّياً لبن غفير ومن يقف خلفه من قطعان المستوطنين والفاشيين والجلادين. وبعد ذلك لا تفكر كثيراً ولا تتحسّر على الوقت الذي بقيت تردد فيه عبارة «هذا الأمر أفعله لأول مرة منذ أربعين عاماً».