وإن رسى الأمر على اعتبار محمود بكر حجازي، أول أسير فلسطيني يدخل المعتقلات الإسرائيلية، وذلك إثر تنفيذه وخمسة آخرين (تمكنوا من الانسحاب) عملية تفجير نفق عيلبون في السابع عشر من كانون الثاني عام 1965، وهي العملية الشرارة التي أسست لانطلاقة المقاومة الفلسطينية بصيغتها الحديثة، فإنه وبعد سنوات قليلة وتحديداً بعد إطباق العدو عام 1967 على بقية الأراضي الفلسطينية ومرتفعات الجولان وتلال كفرشوبا ومزارع شبعا، بدأ الاحتلال بناء السجون والمعتقلات. وصل عددها إلى 31 معتقلاً وسجناً ومركز توقيف في حين تجاوز عدد الذين أوقفوا بها 800 ألف معتقل.

عشية افتتاح سجن عسقلان في بداية عام 1970 بعد إصدار قيادة جيش الاحتلال مرسوماً عسكرياً بفتح السجن الأكثر دموية، أطلق موشيه ديان جملته الشهيرة «تهدف هذه السجون إلى إفراغ الأسرى من محتواهم، وجعلهم مجرد أرقام في مجتمعاتهم» هذه العبارة كانت الخط الناظم لسياسة مصلحة السجون الإسرائيلية، وهو ما عبر عنه مدير سجن عسقلان في حديث له عام 2000 حين قال: «إنه لا يعرف ولا يذكر اسم أي أحد من السجناء، وكل واحد منهم هو مجرد رقم».
إذاً، مثل الإفراغ من المحتوى وتحويل الأسرى إلى كتل بشرية تعاني الأمراض جراء تحويلهم إلى عينات تجرى عليها الاختبارات الطبية. مثل الهدف الذي كانت له وسائل التعذيب الجسدية والنفسية وآليات القهر اليومية. فمن استعباد الأسير أواخر الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي على العمل في صناعة جنازير وشباك الدبابات والحقائب ومماسح الأقمشة وغيرها، إلى إكراهه على تنظيف غرف السجانين والضباط والقيام بأعمال البناء المتعلقة بتوسعة أقسام السجن وصولاً إلى إذلاله في صناعة الشموع للأعياد اليهودية. ومن استخدام القوة في التحقيق من أجل انتزاع الاعتراف، والتي جرى تشريعها ما بعد انتفاضة عام 1987 بقرار قضائي سمح للشاباك الإسرائيلي بـ «الضرب حافة الموت للحصول على المعلومة» إلى العزل الانفرادي وحرمانه من «ساحة الشمس» وسوء التغذية والإهمال الصحي ومنعه من زيارات الأهل والمحامين، ونقله تعسفياً وتأديباً بين الغرف، ومن سجن إلى آخر إلى التفتيش العاري واقتحام الغرف والأقسام وصولاً إلى استخدام الغاز المسيل للدموع في عمليات القمع الجماعية.
المعادلة التي وضعها ديان أوجدت معركة من نوع مختلف ودارت رحاها هذه المرة داخل أكياس حجرية رطبة وخيم المعتقلات، أقطاب المعركة هذه هم: السجان والمحقق والجلاد وما يمثلون من أدوات، من جهة، والأسرى وما يمتلكون من إرادة من جهة أخرى.

المواجهة الفردية المباشرة
تبدأ أثناء جولات التحقيق القاسية، في هذه المسافة الضيقة بين المحقق والأسير حيث يحاول الأخير تجنب الانزلاق إلى الاعتراف، من جهة خوفاً على الجسد من التنكيل، ولاحقاً كي لا يمثل ذلك إدانة مستقبلية له أثناء المحاكمة. لم يكن لدى الأسرى الوعي الكافي لخوض هذه المنازلة فهي تجربة لطالما اتسمت بالغموض، فالأسير لم يكن يعلم مسار التحقيق ولا كيفية التعامل مع الوقت وعنصر القوة الذي يتمثل بصمته. إضافة إلى أن نقل أوضاع السجون إلى الخارج كانت تمر في مرحلة تخضع بها لحالة من التكتم الشديد، المنظمات الدولية لم تكن معنية بكشف حقيقة ما يجري خلف الأسوار، الإعلام كان ضعيفاً إن لم نقل غائباً، المجتمع والرأي العام كانوا أمام حالة جديدة. أمّا الأحزاب والفصائل المعنية مباشرة بالأسرى فقد وضعوا لاحقاً فلسفة جديدة لكيفية مواجهة ظروف الاعتقال. ومع الانتقال إلى السجن الكبير بما به من قهر واضطهاد حمل الأسير معه الطابع الفردي لهذه المعركة، فحصلت حالات كثيرة من التمرد والاشتباك بالأيدي وصولاً إلى إقدام أسرى على ضرب أكثر من مسؤول بمن فيهم مدراء سجون.
عكست حالات العصيان هذه نفسها إيجاباً على المجتمع الاعتقالي على رغم ما شكلته تلك الأعمال من خطر على حياة الأشخاص المعنيين. فمن جهة أعادت إدارة السجون النظر في طريقة معاملة الأسرى خوفاً على حياة السجانين، ومن جهة ثانية شرع الأسرى بالتكتل حول بعضهم البعض وإن كان عنوان هذا التكتل عائلياً -قروياً- إلا أنه أسهم في توحيد الأسرى الذين شرعوا بتنظيم المواجهة. جرى تحرير الغرف من العملاء والمندسين، وعززوا من وحدتهم الداخلية وقد اتخذت بعداً سياسياً وحزبياً بالتزامن مع دخول نخبة أكاديمية وثقافية وسياسية إلى المعتقل.
كانت إسرائيل تعوّل على أن التحسّن الاقتصادي لسكان الضفة والقطاع، إضافة إلى تخريبها المنهجي لقطاع التعليم سيحقق ما أراده ديفيد بن غوريون


المواجهة الجماعية
مع بدء صدور الأحكام العالية التفت الأسرى إلى المكان القابعين به، اعتبروا أنه بما أن الحرية أضحت بعيدة، فلماذا لا يكون الهدف تحسين واقع الأسر بما يحفظ كرامتهم. فخلال سنوات بسيطة تبلور مفهوم المواجهة الجماعية وتحول المعتقل إلى «مدرسة ثورية منظمة»، جرى استنساخ الأطر الحزبية والتنظيمية، ومعها جرى الدخول في معارك مشتركة مع الإدارة.
سلاح الإضراب عن الطعام كان الأمضى (سمّاه الأسرى «حرب الأمعاء الخاوية») نقل هذا السلاح الذي أسفر عن سقوط عدد من الشهداء بين صفوف الأسرى خاصة خلال إضراب سجن نفحة الشهير في عام 1981، والذي استمر 21 يوماً وأسفر عن استشهاد ثلاثة معتقلين، نقل الواقع الاعتقالي من مرحلة إلى أخرى، ومعه جرى تحقيق العديد من الإنجازات التي تولى الأسرى من رعيل إلى رعيل ضمان الحفاظ عليها، ومن ضمن هذه الإنجازات فرض الاعتراف السياسي بالأسرى، ينشدون بمناسباتهم الوطنية والحزبية الأناشيد في باحات السجن على مرأى من إدارة المعتقل، يحتفلون بتحرر زملائهم من بينهم، ويقيمون مجالس العزاء لرفاقهم الذين يسقطون شهداء بعد نيلهم الحرية.

الهرمية التنظيمية للأسرى
لكل فصيل في داخل المعتقل هيئة إدارية أو قيادية تتولى إدارة الحياة التنظيمية والاجتماعية داخل الغرف. يتم إرغام إدارة السجن على فرز الأسرى إلى الغرف على أسس حزبية. فكل تنظيم بداخل المعتقل لديه موجه عام أو مسؤول عام عنه، وهذا التنظيم لديه في غرفة لجان ثقافية تشرف على عقد الاجتماعات التثقيفية والتعبئة والتحشيد. كذلك يوجد لجان أمنية تتولى رصد ومتابعة وتتبع إمكانية خرق أجهزة الأمن الإسرائيلية لصفوف الأسرى.
بداخل كل غرفة يوجد أسير يكون مكلف بالمسؤولية على الأسرى داخل الغرفة التي يتواجد بها. يخضع لهيئة حزبية يرأسها مسؤول عام أو موجه عام، ويتم انتخاب الهيئة من قبل الأسرى المنضوين في صفوف الحزب أو الفصيل على شكل «مؤتمر صغير» تكون مقدمة إليها أوراق عمل وتصورات ووجهات نظر من قبل الأسرى الذين ينخرطون في نقاشات تتعدى واقع الأسر.
كل تنظيم في داخل المعتقل، ويصل عدد أفراده إلى خمسة وما فوق لديه الحق في أن ينتدب إلى «اللجنة الوطنية العامة» ممثلاً عنه. وهذه اللجنة هي أعلى هيئة بين الأسرى، يخضع ويلتزم بقراراتها كل الأسرى وتكون مسؤولة عن اتخاذ الخطوات النضالية ومتابعة أوضاع السجن. يكون على رأسها ممثل للمعتقل، درجت العادة أن يتولى «ممثل المعتقل» التفاوض اليومي مع إدارة السجن من التنظيم الذي لديه أكبر عدد من الأسرى. لكن في بعض الحالات تجاوز الأسرى هذا الاعتبار، وقاموا باختيار ممثل عنهم من ذوي الخبرة وسنوات اعتقاله الطويلة. تحل هذه اللجنة ومعها أيضاً كل تركيبة هرمية حزبية، ويلغى كل شكل من أشكال الالتزام الحزبي، في حالة الإعلان عن الإضراب المفتوح عن الطعام، حيث تشكل هيئة قيادية تسمى «اللجنة الوطنية العليا» التي بدورها تسمي مسؤولي الأقسام والغرف.
تشبه زيارة بن غفير وزير الأمن القومي في حكومة نتنياهو قبل أسبوعين إلى سجن نفحة، وتوعده الأسرى بسحب الإنجازات منهم وعدم السماح لهم بالعيش في ظروف أفضل، تشبه إلى حد كبير الزيارة التي قام بها وزير حرب العدو آنذاك موشيه ديان إلى سجن عسقلان. فما قاله بن غفير، مطابق بالكامل لما قاله ديان في القرن الماضي. مات ديان وتحولت السجون والمعتقلات إلى مدارس نضالية يخرج منها الأسرى أكثر تمسكاً بقضيتهم وقناعاتهم. منهم من تحول إلى المطلوب رقم واحد، عجزت كل القدرات الأمنية والاستخباراتية الإسرائيلية عن الوصول إليه، ومنهم من يتجول بوضح النهار ولا يتجرأ المحتل على استهدافه. أمّا الذين تجري ملاحقتهم والتمكّن منهم فيتحوّلون إلى أيقونات. أمّا أولئك الذين يجلسون في زنزانات ضيقة، يحملون الكتب في أياديهم ويتابعون دراستهم الأكاديمية، يتذكرون كيف أن أسلافهم من الأسرى، كان ممنوعاً عليهم الحصول على ورقة وقلم.