قد يظن البعض، ممّن لا علم لهم بحقيقة التصوّف، في أصله وما تفرّع عنه من مدارس سلوكية، أنّ المنهج ليس إلا وسيلة للانعزال عن مظاهر الحياة، والخمول والتواكل. غير أن الأمر على جليته ليس كذلك، بل إن الصوفيين الذين يعتبرون القلب دائرة اختصاص علمهم، بكل ما يدخل فيه وما يخرج منه، من العقائد والهمم والخواطر والوساوس، كانوا حجر زاوية في كل ما أرسى دعائم الإسلام، ومن ذلك الجهاد في سبيل الله، والنصوص والأخبار والآثار التي في بطون أمهات الكتب، تؤكد أن الجهاد بفرعيه، الأكبر والأصغر، أي جهاد النفس وجهاد الأعداء، دارت عليه رحى التصوف.
محاكمة الشيخ فرحان السعدي

يقول الشيخ الأكبر، محيي الدين بن عربي، الذي عاصر الحروب الصليبية، في كتابه «الوصايا»: «وعليك بالجهاد الأكبر، وهو جهادُ هواك، فإنك إذا جاهدتَ نفسك هذا الجهاد خلص لك الجهاد الآخر في الأعداء، الذي إن قُتِلتَ فيه كنت من الشهداء الأحياء الذين عند ربهم يرزقون، واجهد أن تَرمِي بسهمٍ في سبيل الله، واحذر إن لم تَغْزُ أن لا تحدِّث نفسك بالغزو». وقريب من ذلك ما جاء في كتاب «الإحياء» للإمام أبو حامد الغزالي: «إن المنافقين كرهوا القتال، خوفاً من الموت، أما الزاهدون المحبون لله تعالى، فقاتلوا في سبيل الله كأنهم بنيان مرصوص». وفي موطن آخر يقول حجة الإسلام: «ولقد عظم الخوف من أمر الخاتمة، فأسلم الأحوال عن هذا الخطر خاتمة الشهادة». والشواهد في هذا الباب، أكثر من أن تُحصر، وقد ذكرتُ شاهدَين للاستئناس ليس إلا.
من نافل القول، إن المتصوفين على مر العصور، كانوا أهل جهاد وراية قتال، ولو أردنا أن نذكر نماذج لجهاد أهل التصوف، في العالمين العربي والإسلامي، خلال القرون السالفة، فهذا مما لا يتسع المقام لبسطه هنا، ولذا سأكتفي بالحديث عن صفحة مضيئة، تلخّص شيئاً من دور الصوفيين بالجهاد في فلسطين على وجه الخصوص، على اعتبار أنها أرض رباط، ولا خلاف على أحقية النضال في مواجهة محتلها، مع الإشارة إلى أن الكلام عن مقاومة صوفية في الأراضي الفلسطينية المقدسة، لا ينبغي أن يكون مفاجئاً للبعض، فأهل الزوايا والتكايا، كانوا حجر أساس، وأصحاب صرخة مدوية، وبذلوا النفس والأهل والمال، في مواجهة الاحتلالين البريطاني والإسرائيلي.
يعدّ الشيخ فرحان السعدي، من أوائل من أطلقوا صيحة الجهاد مدوّية في فلسطين ضد الاستعمار الإنكليزي. والشيخ المولود في أواسط القرن التاسع عشر، ينتمي إلى عائلة السعدية الجيباوية الصوفية، وقد انتفض عندما احتل البريطانيون بلاده، وأخذوا يحولون الأراضي إلى الحركة الصهيونية. هبّ السعدي يدافع عن الحقوق المسلوبة، فوقف على منبر المسجد الأقصى، في الجمعة الأولى من شهر حزيران عام 1921، وألقى خطبة بيّن فيها للناس خفايا ومخاطر مخططات بريطانيا الاستعمارية، وقاد تظاهرة بعد الصلاة ضد الإنكليز شارك فيها الآلاف، قبل أن تقوم القوات الإنكليزية بقمعها، واعتقال الشيخ.
لاحقاً، شرع الشيخ السعدي ومريدوه، ومن تبعهم من المجاهدين، بمهاجمة القوافل اليهودية على الطريق بين طولكرم ونابلس، وكان الشيخ يجمع المال من أجل تمويل حملاته الجهادية، وقد كتب رسالة إلى الديبلوماسي والكاتب الفلسطيني المعروف أكرم زعيتر، يقول له فيها: «نقوم بالواجب في سبيل الله، بدأنا الجهاد وسوف ننتصر، الحاجة ماسة إلى خرطوش، المال نافذة لهذه الغاية، نعتمد عليكم». وقد شارك الشيخ فرحان بصورة متواصلة في المؤتمرات الوطنية، وفي التظاهرات ضد الانتداب البريطاني، وشكّل في «ثورة البراق» عام 1929، عُصبة من المجاهدين في قضاء جنين، تصدت لسلطة الانتداب بالتمرد والعصيان، فقبضت عليه قوات الإنكليز، وسجنته ثلاثة أعوام في سجني عكا ونور شمس، انتقل بعد خروجه من السجن إلى حيفا، حيث اتصل بالشيخ عز الدين القسام، وانضوى تحت لوائه، وقاد الثورة الفلسطينية الكبرى بعد استشهاده.
الكلام عن مقاومة صوفية في الأراضي الفلسطينية المقدسة، لا ينبغي أن يكون مفاجئاً للبعض، فأهل الزوايا والتكايا، كانوا حجر أساس، وأصحاب صرخة مدوية


ويعتبر قتل الجنرال أندروز (كما كان يلفظه الفلسطينيون، واسمه الحقيقي هو ليويس ييلاند أندريوس)، أبرز الإنجازات الجهادية لمجموعة من المجاهدين بينهم الشيخ فرحان السعدي، وعلى إثر ذلك قام الإنكليز بحملة واسعة للبحث عنه، تمكنوا خلالها من إلقاء القبض عليه، وحاكموه صورياً، بعد أن شكلوا محكمة سريعة، لم تستغرق إلا ساعتين فقط، لم تقبل فيها كل اعتراضات محامي الدفاع على الخروقات القانونية، وأصدرَت في 24 تشرين الثاني عام 1937، حكماً بإعدام الشيخ، جرى تنفيذه بعد ثلاثة أيام، وكان ذلك في 14 رمضان من ذلك العام، والشيخُ صائم، وكان آخر ما قاله: «الحمد لله»، وتلا قوله تعالى: «مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا».
وقد خاطب الشاعر الفلسطيني عبد الكريم الكرمي الأمّة العربية حكاماً وشعوباً في رثاء السعدي، قائلاً:
«قوموا انظروا فرحان
فوق جبينه أثر السجودِ
يمشي إلى حبل الشهادة
صائماً مشي الأسودِ
سبعون عاماً في سبيل
الله والحق التليدِ
خجل الشباب من المشيب
بل السنون من العقودِ».
وعندما نتحدّث عن طلائع الجهاد في فلسطين، فإن أوّل ما يتبادر إلى الذهن، اسم الشيخ المجاهد عز الدين القسام (1882-1935)، والشيخ كما لا يخفى على أحد، صوفي المسلك والهوى والهوية، يعدّ رائد الكفاح في بيت المقدس وأكنافه في العصر الحديث، وقد تَرجم له صاحب الأعلام الشرقية زكي محمد مجاهد بقوله: «شيخ الزاوية الشاذلية في جبلة الأدهمية» في إشارة إلى أصوله السورية.
خلال الحرب العالمية الأولى، وثّق القسام صلاته بمشايخ الجبل، وأبرزهم المجاهد صالح العلي، ولمّا احتل الفرنسيون الساحل السوري، نادى الشيخ عز الدين في تلامذته ومريديه بوجوب الجهاد، وفي العام 1920 توجّه نحو فلسطين، فاستقر في حيفا، وأخذ ينبّه الأهالي إلى الخطر المحدق ببلادهم، وذلك من خلال الخطب التي كان يلقيها في المساجد، وممّا قاله في إحدى خطبه، بعد أن أعدم الإنكليز الثوار الثلاثة (فؤاد حجازي وعطا الزير ومحمد جمجوم) «إنّ الصليبية الغربية الإنكليزية، والصهيونية الفاجرة اليهودية، تريد ذبحكم كما ذبحوا الهنود الحمر في أميركا، تريد إبادتكم أيها المسلمون حتى يحتلوا أرضكم من الفرات إلى النيل، ويأخذوا القدس، ويستولوا على المدينة المنورة، ويحرقوا قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، إنهم يريدون اللعب بأمهاتكم وبناتكم وأخواتكم، وتحويلهن إلى خدم وسبايا، يا ويلكم!».
وكان الشيخ يقرن قوله بالفعل، إذ اتخذ من «مسجد الاستقلال»، في حيفا مركزاً جهادياً، ومقراً للتدريب، وكانت معظم خطبه تحض على الجهاد، وكان كثير الاستشهاد بالآيات الكريمة التي تشجع عليه، ويشدد النكير على كل من يتعاون مع سلطات الانتداب، وبعد أن استفحل الخطر الصهيوني، أصدر الشيخ بيانه الأوّل، الذي جاء فيه: «باسم الله، نعلن الثورة، سأخرج فوراً إلى الجهاد، ولن أعود إلى هذا الجامع إلا بعد طرد الإنكليز واليهود معاً»، وهكذا كان، فقد خرج الشيخ المجاهد يقاتل من أجل هذه الغاية الشريفة، كلاً من البريطانيين والصهاينة، فباع بيته الوحيد في حيفا، وباع أصحابه حليّ نسائهم، واشتروا به السلاح والعتاد، وخرجوا للجهاد في سبيل الله، حتى ضجّت منه بريطانيا، فحوصر في يعبد حول جنين عام 1935 رافضاً الاستسلام حتى ارتقى شهيداً مع كوكبة كبيرة من مريديه، من بينهم الشيخ المجاهد يوسف الزيباري، والشيخ المجاهد محمد الحنفي أحمد، وغيرهم كثيرون، وكان لاستشهاد القسَّام الأثر الأكبر في اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936، التي عُدّت نقطة تحول كبيرة في مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية.
ومن أمثلة الحراك الجهادي الصوفي في فلسطين:
- الشيخ المقدسي أديب إبراهيم السراج، الذي ولد عام 1891 في حي باب الواد، والذي ألقى الخطب وقاد التظاهرات المطالبة بوقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين، واشترك في ثورة البراق عام 1929 وكان أحد قادتها، وبعد ذلك التحق بالقائدين المجاهدين سعيد العاص، والشيخ عبد القادر الحسيني، وخاض معهما معارك عديدة ضد الاحتلالين البريطاني والصهيوني، وفي عام 1936 ارتقى الشيخ شهيداً بعد إصابته بخمس رصاصات قاتلة، وهو يخوض معركة في ضواحي القدس.
- الشيخ فوزي الإمام، من مواليد يافا عام 1901، كوّن جماعة من المجاهدين عام 1936 لحماية مدينة يافا، وعندما حاول اليهود الاعتداء على السكان الآمنين، قام الشيخ بردهم، وأجبرهم على الانسحاب إلى حي «تل أبيب»، وقد انخرط الشيخ فوزي لاحقاً بمن معه من المجاهدين، تحت قيادة الشيخ حسن سلامة، وتمكنوا من رد عدوان جديد على يافا عام 1948، ما دفع القوات البريطانية، بإسناد العصابات الصهيونية، لإرسال رتل من الدبابات والمصفحات، ليسقط الشيخ شهيداً في أرض المعركة.
- الشيخ أمين العوري، من قرية بيت عور في رام الله، ولد فيها، ثم انتقل إلى القدس، وعُيّن بعد دراسته الشرعية مدرّساً في المسجد الأقصى، ومنه انتقل إلى وظيفة أمين عام سرّ الإفتاء، وكان في خطبه جميعها يشجّع على الجهاد ومقاومة الاحتلال، وصار حلقة الوصل بين المجاهدين في شمال فلسطين وجنوبها، وانخرط في ما بعد بالجهاد الفعلي، بماله ونفسه، ونفذ مجموعة من العمليات في مناطق العيزرية وأبو ديس، ضد القوات البريطانية والصهيونية، وشارك في نسف القطار المحمل بالبضائع المنقولة لليهود من يافا إلى القدس، مع نفر قليل من مريديه، وشاءت الأقدار أن يصاب الشيخ بشظية في الرأس، ويسقط شهيداً.
- الشيخ محمد هاشم البغدادي، المولود في القدس عام 1909، تلقى العلم عن الشيخ صالح السرغيني، وأجازه بالطريقة القادرية، وكان يكثر من الدعاء ويقول: «هذا زمن الدجال، لا زمن أبي بكر وعمر –رضي الله عنهما-»، ويحضّ على العمل قائلاً: «العمل العمل فلا كسل في ديننا»، وكان يأمر بملازمة المسجد الأقصى ودوام زيارته والمرابطة فيه.