كان اندلاع الانتفاضة الشعبية الفلسطينية الأولى، المعروفة بانتفاضة الحجارة، أمراً طبيعياً من حيث حتمية حدوثه في سياقٍ أخذت فيه عربدة النظام الاستعماري الصهيوني بُعداً جديداً؛ فقد ثبت فشل المساعي الإسرائيلية لاحتواء سكان المناطق التي احتُلَّت في حرب حزيران/ يونيو 1967، من خلال استخدامهم كأيد عاملة رخيصة في قطاعات البناء والزراعة والصناعة الخفيفة. كان النظام الصهيوني يعي تماماً أن التكلفة المنخفضة لقوة عمل سكان الضفة الغربية وقطاع غزة، ستعني تحسّناً نوعياً لسكان «المناطق»، وهو مصطلح ورثته إسرائيل من حقبة الاستعمار البريطاني الذي قسّم فلسطين إلى مناطق عسكرية خلال ثورة 1936، ولا تزال إسرائيل تستخدمه لوصف الضفة والقطاع نظراً إلى خضوعهما للحكم العسكري -خرجت غزة من التسمية بعد إعادة إسرائيل لانتشار قواتها عام 2005.
فشل استراتيجية المضطهِدين أمام صيرورة المضطهَدين
كانت إسرائيل تعوّل على أن التحسّن الاقتصادي لسكان الضفة والقطاع، إضافة إلى تخريبها المنهجي لقطاع التعليم سيحقق ما أراده ديفيد بن غوريون بأن «يموت الكبار وينسى الصغار». لكن بن غوريون ومن جاء بعده غفلوا عن أن تلك المقولة منطقية في سياق غير سياق الاستعمار والطرد، أي إنها منطقية في حالة طبيعية -لا وجود فيها لعوامل تهديد وجودية كالاستعمار الصهيوني- لا في حالة غير طبيعية كحالة دولة إسرائيل التي قامت وتقوم على التطهير العرقي والاستعلائية العنصرية والتنكيل بالشعب الأصلاني بوتائر مختلفة، وكلها ممارسات يومية ضد من تبقّى من الشعب الفلسطيني في فلسطين.
لقد أدى الارتفاع النوعي لدخل أكثر من مئة ألف أسرة فلسطينية في الضفة والقطاع إلى تحسّن ملموس في ظروف المعيشة وإنعاش لحياة الفلسطينيين هناك -وأغلبهم لاجئون داخل وطنهم- كما أدى احتكاكهم بسوق العمل الإسرائيلي الذي ينهل من أحدث التقنيات الغربية، ويشارك في إنتاج بعضها، إلى نقل معرفة وآلات حديثة امتزجت مع ما حمله الأصلانيون الفلسطينيون من معرفة مما قبل النكبة، فأخذ ذلك اتجاهاً نحو صناعة فلسطينية -على نحو جنيني؛ إذ ظهرت ورش ومعامل في قطاع غزة والضفة الغربية كانت إمّا جزءاً من شبكات قيمة تابعة لشركات رأسمالية كبرى، أو كيانات مستقلة، ففي غزة ومخيم جباليا كانت تصنع ملابس لعلامات كـ Levi’s و Lee، وأيضاً ثلاجات العرض للمحال التجارية، وفي الخليل ازدهرت على نحو أكبر صناعة الأحذية -المعروفة بها تاريخياً- إضافة إلى معامل للصناعات الغذائية في غزة ونابلس ورام الله والخليل. وقد أدى ذلك إلى بروز طبقة عاملة فلسطينية شكلت قرابة 38% من سكان الضفة والقطاع، وكان ثلثها عاملاً في الاقتصاد الإسرائيلي.
كانت إسرائيل تعوّل على أن التحسّن الاقتصادي لسكان الضفة والقطاع، إضافة إلى تخريبها المنهجي لقطاع التعليم سيحقق ما أراده ديفيد بن غوريون


لكن الفلسطينيين استمروا في الحديث عن نكبتهم شفهياً، على الرغم من أن المدارس كانت تعتمد في قطاع غزة منهاجاً مصرياً وفي الضفة الغربية آخر أردنياً، كما ظل اللاجئون يشيدون بيوتاً تراوحت بين الجيد والفخم بعد أن تحسّنت أحوالهم المادية عام 1980من القرن الماضي، لكن داخل المخيمات وحولها، فقد كانوا -ولا يزالون- متشبّثين بالمخيم ويعتبرونه مرحلة ما قبل العودة، وأن أي مكان غيره سيعني اللاعودة. تزامن ذلك كله مع جهود صهيونية مسعورة لمسح أي مظهر من مظاهر الهوية الوطنية الفلسطينية، ومنع الفلسطينيين من الاستقلال اقتصادياً عن إسرائيل -التي أرادت لهم تحسناً يُنسيهم ماضيهم، مع أن يظلوا تابعين لاقتصادها، إذ تناسب تحسّن الأحوال الاقتصادية طردياً مع تعاظم الروح الوطنية. يُضاف إلى ذلك أن إسرائيل شعرت بنشوة بعد أن هزمت منظمة التحرير الفلسطينية عسكرياً إثر اجتياح بيروت عام 1982 فصار تنمّر العسكريين الإسرائيليين على الأهالي جزءاً من الحياة اليومية.

1987 تجلّى «هرم ماسلو»...
لا مخطط من أي فصيل!

كثيراً ما تردّد الفصائل الفلسطينية، الوطنية منها والإسلامية، أنها خطّطت للانتفاضة، أو أن نضالاتها تسبّبت في تأجيج نار الكفاح في صدور أبناء الشعب الفلسطيني. لكن ذلك منافٍ للواقع تماماً مثلما تُفيد روايات من عاصر تلك الفترة، وواقع الحال اقتصادياً وسياسياً. ففي حين أشبع فيه الفلسطينيون جوعهم واكتسوا من بعد برد وسكنوا بيوتاً من بعد خيام، وفي وقت لم تكفّ فيه إسرائيل عن حرمانهم من العودة إلى ديارهم، بل ومنعتهم من أن يكونوا أنفسهم -فلسطينيين أبناء هده الأرض التي سميت عنوة إسرائيل- لا بل تمادت في غيِّها بعد أن كسرت شوكة منظمة التحرير التي رؤوا فيها ممثلهم الشرعي والوحيد، وصارت تنغّص عليهم عيشهم بعد أن صار بإمكانهم كسبه من دون الركون إليها، صارت الثورة والخروج على المحتل أمران تحدثهما به النفس طوال الوقت.
قد يبدو تناقضاً أن إسرائيل -التي من مصلحتها أن يتحسن حال الفلسطينيين اقتصادياً- راحت تغلق المعامل، وتضع أنف مخابراتها في شؤون الناس. لكن ذلك من التناقضات المتأصلة في كيان استعماري كإسرائيل، فهي تخشى استقلال التابع، وتخشى ألا تكون لها سيطرة على صياغة وعيه، فتوافرت الظروف الموجبة للانفجار.

(عبد الرحمن المزين)

تفيد نظرية عالم النفس أبراهام ماسلو بأن الإنسان يأخذ في السعي إلى تلبية حاجاته المعنوية والمادية الآجلة، بعد أن يلبي حاجاته المادية العاجلة. لذلك تفرّغ من بقي من الفلسطينيين داخل وطنهم للانبراء للاحتلال. ورُبّ سائل يسأل: أوليس أحرى بالجياع المشردين أن ينقضُّوا على من نكبهم وشرّدهم؟ والجواب: بلى، غير أن وجود فصائل مسلحة وممثل سياسي هو منظمة التحرير، ودول عربية في الخلفية وحول إسرائيل، جعل الفلسطيني داخل فلسطين ينتظر الفرج ممن هم نظرياً أقوى منه. وعندما اتضح أنه لم يبق في «الميدان إلا حميدان» كما يقول المثل الشعبي الفلسطيني، لم يتأخر حميدان عن القِراع. لذا لا يمكن فهم اندلاع الانتفاضة الشعبية الأولى في حدثٍ عنيفٍ محليٍ هنا أو هناك.

الثورة السائبة تُعلِّم السرقة!
كان أبناء الشعب من عمّال وفلاحين وطلبة ومثقفين، رجالاً ونساءً من مختلف الشرائح وقود الانتفاضة، فقدّموا الشهيد والسجين والجريح، والمطارد، والمنفي. لكن لم يكن لكل هؤلاء حزبهم بالمعنى الاجتماعي الاقتصادي، إذ لم تكن معركة الوعي مربوحةً، كما أن الفصائل اليسارية التي طرحت نفسها ممثلة للكادحين كانت عقيمة تنظيمياً وفكرياً ومصابةً بنيوياً بأمراض اليمين. أمّا اليمين الذي قاده ياسر عرفات، فقد أفسد حالةَ التنظيم الشعبي -التي نسَّقت الإضرابات ونظمت التعليم والتآزر المجتمعي- بالمال الذي كان يُغدق بغير حساب من مكتب المنظمة في عمَّان على كل من هبّ ودبّ، لا سيما على الزُّعران والبلطجيّة الذين أثاروا الفوضى وعملوا على تصفية الكوادر الفتحاويّة القليلة التي عارضت التسوية السلمية من مدريد حتى أوسلو. أمّا الفصائل الإسلامية -وخاصة «حماس»- فكانت تغرّد في وادٍ من التهيؤات المخلوطة بالمراهقة النضالية وفهم بدائي سطحي للدين. لذلك كان من مصلحة منظمة التحرير ورئيس أكبر فصائلها «فتح» وزبانيته أن توقع اتفاق أوسلو الذي تنازل عن ثوابت القضية الفلسطينية مقابل «حلّ سلمي» جلب له بساطاً أحمر وأموالاً غربية. لقد كان حلاً للطبقة الطفيلية التي لا تهمها العودة والخلاص من الصهيونية، على حساب الطبقات الكادحة التي يهمّها ذلك. لذلك فإنه ما لم يكن لجماهير كادحي الشعب الفلسطيني في كل مكان، حزبها هي، فإن كل انتفاضة ستُسرق مثلما سُرقت انتفاضة الحجارة. ذلك هو الدرس المُرّ الذي يجب أن يعى كي نحتفل يوماً ما بالتحرير، لا الذكرى.