كان يقبل على الحياة بفرح شديد، لا يطيق حمل الأحزان، ودود، يحب الأصدقاء، يتفانى في خدمتهم، جميع من حوله يعرفون كل الصفات النبيلة فيه، يدركون أنه من معدن نادر.لكنهم لم يعرفوا أيضاً أسراره التي أخفاها عنهم لضرورات يقتضيها عمله المقاوم، ففي الليل كان شخصاً آخر، يتجهز لمعاركه التي يخوضها منفرداً، وأحياناً مع رفاق السلاح.

صالح طحاينة الذي كان يسابق الزمن ليكمّل نصف دينه، كان يرى بضرورة بناء العائلة، ويحب الأطفال، دائماً ما كنا نراه يقف في الشارع، يوزع الحلوى والسكاكر عليهم، يتحدث معهم كأنه منهم، لم يخطر في بال أحد منا، أن يتحول صالح إلى مطارد، يكثّف الاحتلال غزواته للقرية بحثاً عنه. فجأة سقط القناع، أصبح بلا أقنعة، وهذه المرة كان ما يخفيه صالح، أجمل بكثير، لقد حاول التضليل على الجميع في إخفاء حقيقته، لكنه تضليل محمود في هذه الحالة، لم يكن يبوح بأي رأي سياسي، يكشف عن توجهه التنظيمي، كان يكتفي بالابتسامة إذا سئل، حتى جاء يوم الانتفاضة الذي داهمتنا فيه جميعاً من دون أن تسألنا، كان صالح يعرف مسبقاً على ما يبدو، أننا جميعاً سنلتحق بهذا الزمن، كل على طريقته، وكل بمقدار طاقته، لكن طاقته كانت لا قرار لها ولا حد يوقفها. في زمن الانتفاضة الكبرى، كان يتماهى معها، أو كأن الانتفاضة فصّلت على مقاسه، أو هكذا اعتقدنا وقتها، انضم إلى قائمة المطلوبين الذين يطاردهم جيش الاحتلال.
المطارد يعني أن لا سقف فوقه، ولا عنوان له، كما يمكن أن تكون كل العناوين عنواناً له، أيام وأشهر يعيش صالح فيها ذروة المطاردة، حتى تمكن الاحتلال منه، أو هكذا ظن، بعد سنة عاد صالح من السجن، عاد لبيته وحريته، عاد لقريته، عاد لحلمه الأزلي، فهو العاشق للمقاومة، لا شيء يثنيه عن هذا الفعل، في كل لحظة كان يؤسس لفعل جديد. لا أدري وقتها، إن كنت صديقه، أو أحد المقربين منه، ربما كان الخيال يلعب دوراً في صنع الصداقة، فهو القريب الصديق اللصيق للكل، سألته في مرة من المرات، ولا أدري وقتها لماذا اخترته لهذا السؤال، كان السؤال عن الموت، كيف يراه، وهل يخاف منه؟ أجابني جواباً مختلفاً عما سمعته من قبل، لا ألم بالموت، هو كما الولادة، تعود كما بدأت صافياً، صدقاً إجابته صدمتني، لكنها لم تحدث تأثيراً إيجابياً معي وقتها، وأنا الذي كنت أرى الموت يتربص بي، أهيم مذعوراً منه، ولم أكن أدري أني مصاب «باضطراب ما بعد الصدمة» هكذا يسمونه اليوم في علم النفس الحديث. في زمن الاحتلال نصاب بأمراض تتعدى حدود الجسد، تلامس الروح، تترك فيها جروحاً غائرة، تحاول أن تفتك بها، لا نتمكن حتى من معرفة حالتنا أو اسم المرض، بالتالي نحرم من العلاج، اليوم وبعد مرور أكثر من 55 عاماً على احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، وصل عدد الأطفال المصابين باضطراب ما بعد الصدمة أكثر من نصف أطفال فلسطين، فلسطين بمؤسساتها الطبية غير مهيأة حتى هذا الوقت للتعامل مع هذه الحالات المرضية وعلاجها. في زمن الاحتلال نصاب بكل أنواع الأمراض ولا نجد الوقت الكافي لعلاجها ولا حتى الإمكانية.
أحضروا صوراً للشهيد براهمة، وهو ممزق الجسد، الصديق أخذ يبكي من وصف صالح، لكن صالح المؤمن الرسالي العقائدي، أسكت صديقه، قائلاً له عصام في الجنة الآن


صدمتني إجابته، لكنها كانت البداية لتلمس طريقي، ومحاولة مداواة جراحي الداخلية النازفة، صالح كان قد اختار أن يداوي جراحنا جميعاً، فهو من طينة الأولياء الصالحين، عاد مطارداً مرة أخرى، لكن هذه المرة مختلفة عن غيرها، أصبح سلاحه معلناً ومشهراً في وجه أعدائه، الضفة شهدت له ولرفيق دربه عصام، العمليات النوعية التي دشنت مرحلة جديدة من مراحل المقاومة.
سافرت لاستكمال مرحلة الدراسة الجامعية، بقي صالح في الأرض التي عشقها، كان فلاحاً فلسطينياً على طراز الأجداد، يعرف المواسم وحملها، ويعرف بالتفصيل الأسماء التي يطلقها الفلاحون على كل الهطلات المطرية في فصل الشتاء، ويعرف أيضاً حاجة الأرض لها، وما هي فائدتها على كل محصول، كان يتقن حراثة الأرض، ورشها بالبذور، وأنا كنت ممن يصابون بـ«الهلع الهستيري» من المعول، الأرض بالنسبة له، لم تكن مقولة مجردة، كانت عالمه الذي عاشه بكل تفاصيله، أذكر أنه قد حصل على العلامة التامة في مادة الجغرافيا، في امتحان التوجيهي، الجغرافيا مهنته وحرفته التي أتقنها، في المنفى وعلى الرغم من شح الوصول إلى الأخبار وقتها، ولم تكن وسائل التواصل الاجتماعي موجودة بعد، كان الإعلام رسمياً، وصلني خبر إلقاء القبض على صالح بعد اشتباك مسلح مع قوات الاحتلال، وأنه أصيب بالرصاص، نقل إلى المستشفى، ثم إلى أقبية التحقيق، ليحكم عليه بالسجن المؤبد مدى الحياة، ولم ينتظر طويلاً، حتى تمكن من الإفلات من الأسر، بحيلة انطلت على الاحتلال، خرج من الأسر، باسم أسير آخر، أنهى محكوميته، صديقه الشهيد نعمان. انبرى لترتيب هذه المهمة، أشهر وصالح يجوب البلاد طولاً وعرضاً، يحمل سلاحه، والاحتلال لم تصله المعلومة بعد، لأن صالح في الأسر، هذا على ورق الاحتلال، بينما الحقيقة كانت أنه مطارد في أزقة المدن التي احتوته.
عاد ليستكمل ما بدأه مع رفيق دربه الشهيد عصام براهمة. لم تهزمه سيوف أوسلو المشرعة في وجه المقاومة. طورد ثلاث مرات، ولم تثنه جروحه التي أصيب بها في اعتقاله الأخير، كان يحلم بوطن حر، يقول أحد رفاقه في الأسر، أن صالح أخبرهم بما فعله الاحتلال به، أثناء فترة التحقيق، حيث أحضروا صوراً للشهيد براهمة، وهو ممزق الجسد، الصديق أخذ يبكي من وصف صالح، لكن صالح المؤمن الرسالي العقائدي، أسكت صديقه، قائلاً له عصام في الجنة الآن. أين نحن؟ أراد الاحتلال إخضاع صالح بتلك الوسيلة، لكن صالح الذي ينتمي لزمن آخر غير زمن الاحتلال، كان يرى صورة عصام من زاوية أخرى، صورة الشهيد الخالد والملهم، في 4 تموز 1996، عثر على الشهيد صالح طحاينة في إحدى الغرف بشقة سكنية في مدينة رام الله مغدوراً به، وقد لفظ أنفاسه الأخيرة. كانت علامات التعذيب بادية على جسده، كسر في العنق، آثار طعن بالسكين، سيخ مغروزة في قلبه، علامات عنف على الجسد الطاهر، مادة كيماوية مسكوبة على الرأس والجسم، أراد القاتل أن يجعله عبرة لمن يعتبر، فكان له ما أراد، لكن عكس ما يشتهي؛ شقيقه الشهيد سليمان وابن عمه الشهيد عبد الكريم، كان لهم القول الفصل على أبواب القدس والعفولة، وسقط القتلى والجرحى في صفوف الاحتلال، لتصل بعدها رسالة صالح: أنا لن أغيب، ولا حياة بلا حرّية. السلام على صالح وعلى إخوته يوم ولدوا ويوم يموتون ويوم يبعثون أحياء.