لم تكن إسرائيل بحاجة للتمسك بخطاب العملية العسكرية طوال الأشهر الستة الماضية إلى الآن لو أنها تمكّنت من استئصال الحالة التي أُفرِزت لأجلها العملية. إلى أن بات اسم «كاسر الأمواج» يلصق حتى في بيانات الاعتقالات الروتينية القائمة منذ سنوات في الضفة، للقول بأن عملية «الردع» تواكب التصعيد الحالي بما يحفظ «أمن إسرائيل».إلا أن الترجمة الميدانية تشير إلى وجود خطين متعارضين: تراجع خط الردع والأمن الإسرائيلي مقابل تعاظم جرأة العمليات القاتلة ومفاعيل المقاومة، ما أوقع المؤسسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية في مربع الاستنزاف ودوامة المشاغلة، ولم تجد طاولة القرار في إسرائيل خياراً، سوى تبني سياسة «إطفاء الحرائق» التي أشار إليها اللواء في احتياط جيش الاحتلال عاموس جلعاد، من خلال المعالجة المؤقتة للتحديات والقضايا المشتعلة، والإغفال عن دراسة الأرضية المعمقة لصياغة استراتيجية شاملة. بالتالي الانجرار إلى مستنقع البؤر الساخنة، التي لم تنجح المؤسسة الأمنية بكل الأحوال في إخمادها، وكسر الدائرة المفرغة في البحث عن الأمن المفقود.

«المشاغلة حد الاستنزاف»
المُخرجات العكسيّة التي نتجت من «كاسر الأمواج» أبقت لزاماً على الخطاب الإعلامي الإسرائيلي حصر ما يجري في إطار «موجة تصعيد» ونبذ كل ما له علاقة بـ«انتفاضة» أو «هبة»، باعتبار أن مبدأ الشمولية الشعبية غير حاضر في مفردات الساحة الفلسطينية الحالية. لكن الالتصاق بالوصف المذكور مقارنة بالفشل العملياتي دليل على عمق الفجوة بين الميدان والخطاب السائد، وهو في الحقيقة ما يُبْقي الاحتلال في مربع المراوحة نفسه.
ما يحدث لا يمكن قراءته بعدد الشهداء والجرحى مقابل ما يتكبّده الاحتلال من خسائر، بل انجرار عسكري وتطويق ذاتي في استراتيجية سبق وأثبتت فشلها. يُستَدل على ذلك بما تقدّمه الأرقام من معطيات؛ ففي الضفة يحرس حالياً «55% من حجم القوات، التي تركت حراسة دولة إسرائيل»، بحسب ما أفاد محلل الشؤون السياسية، أمنون أبراموفيتش، «القناة الـ12»، مضيفاً أن «قوات اليمام واليسام تتواجد جميعها على الأرض»، وفي الأسبوع الأخير تم تعزيز 3 كتائب إضافية.
‏يضاف إلى مزراب التعزيزات قرار وزير الأمن الداخلي في إسرائيل، عومر بار ليف، باستقدام «4 سرايا من حرس الحدود في القدس، من أصل 10 سرايا تم وضعها في حالة تأهب». سبقها انتشار أكثر من 25 كتيبة في الضفة وحدها خلال فترة الأعياد اليهودية، مع قرار تعزيز محافظة نابلس بوحدة «غولاني»، بالإضافة إلى نشر مئات من عناصر الأمن في منطقة القدس، وتعزيزات من قوات شرطة الاحتلال وقوات حرس الحدود.
بالنتيجة، وجدت هذه القوات نفسها أمام إنهاك أمني تتطلب منها التعامل في الأسبوع الأخير فقط، مع 162 نقطة مواجهة، و40 عملية إطلاق نار، و66 عملية إلقاء عبوات متفجرة وزجاجات حارقة في عدة مناطق من الضفة. وفي المشهد الأعم لشهر تشرين الأول، لاحقت القوات منذ بداية الشهر أكثر من 67 عملية إطلاق نار، 102 عملية إلقاء عبوات متفجرة وزجاجات حارقة. بينما سجل شهر أيلول 212 عملاً مقاوماً، و34 عملية إطلاق نار.
في المحصلة، عملية نقل نصف الجيش ووحداته الخاصة إلى جبهة الضفة لم يحمِ 44 جندياً ومستوطناً من التعرض للإصابة


في المحصلة، عملية نقل نصف الجيش ووحداته الخاصة إلى جبهة الضفة لم يحمِ 44 جندياً ومستوطناً من التعرض للإصابة خلال المواجهات أو العمليات الهجومية، كما لم تمنع التعبئة الميدانية واللوجستية والاستخباراتية من تشييع جنديين في جيش الاحتلال، ومرة أخرى حدث كل هذا خلال أسبوع واحد.
للوصول إلى أرضية الاستنزاف الساخنة، لا ينبغي تحييد حجم التشغيل للوحدات الاستخباراتية المرافقة عند أي نشاط عملياتي أو اقتحام، أو في حال وقوع أي حدث أمني أو حتى إنذار خاطئ، كما لا يمكن قياس الاستنزاف بعدد القوات، وإغفال الجانب اللوجستي والآليات العسكرية والأسلحة الفاعلة في الميدان، حتى الجوية منها.
يظهر ذلك جلياً في إحصاء قامت به «الأخبار»، رصد حجم الاستنزاف الميداني لجيش الاحتلال على مدى 45 يوماً (من 1 أيلول وحتى 15 آب) شمل محافظات الضفة كافة، إذ كشف عن قيام الجيش بتنفيذ 130 اقتحاماً، والتعامل مع 53 عملاً مقاوماً ما بين إطلاق نار وعبوات متفجرة، كما انخرط في 69 اشتباكاً مسلحاً، تصدّرت جنين النسبة الأعلى تليها نابلس. تطلب لإتمام الأنشطة العملياتية المذكورة كافة تشغيل 14436 جندياً من الجيش والقوات الخاصة ووحدات النخبة، واستخدام 1722 آلية عسكرية من الجيبات المصفحة إلى الآليات العسكرية الضخمة وناقلات الجند.

الفشل التراكمي
هنا لم يتطابق حجم التشغيل والاستنفار مع الواقع الحالي في إفراز بنية ردع لحماية أمن المستوطنين وتقليص معدل العمليات الآخذة في الازدياد والجرأة. فبينما كانت المؤسسة الأمنية تسعى لتحرير نفسها من الخيارات المقيّدة التي فرضتها أرضية النضال، تطفو على السطح سلسلة من الإخفاقات الأمنية والعسكرية والخلافات الهرمية في إسرائيل.
بدءاً من جدلية الرد على العمليات، وسوء الأداء الميداني للجنود المدربين، والتي دفع ثمنها إصابات قاتلة من مسافة صفر، الأمر الذي انعكس تلقائياً على معنويات الجنود، وهيبة المؤسسة العسكرية داخلياً. وإن دلت مقاطع الفيديو التي وثقتها كاميرات المراقبة على شيء، فقد كشفت عجز الجنود في التعامل مع العمليات المباغتة للمقاومة والاستجابة السريعة لإطلاق النار، مقابل قدرة المقاومين على خرق الدرع الأمنية وخلق الإرباك المطلوب لتحقيق إصابة قاتلة في توقيت زمني قياسي لا يتعدى الـ 10 ثوانٍ، كما في عملية شعفاط، ثم التمكن من الانسحاب، وتوسيع رقعة العجز الأمني على مستوى مؤسسة أمنية كاملة تلاحق المنفذ.
إلى التخبط الواضح على مستوى القيادة العسكرية والسياسية، فبينما خرج رئيس الأركان، أفيف كوخافي، بقرار استخدام المسيرات في عمليات الضفة، عارضه وزير الحرب في كون القرار يُحسم بالاشتراك مع القيادة السياسية وليس العسكرية حصراً. خلاف آخر برز بين القيادتين في قرارات الحسم العسكري، كما الحال في اجتياح وكر «عرين الأسود» في البلدة القديمة بنابلس، فالمستوى السياسي يتعمّد سياسة الضبابية في الحسم خشية دفع أثمان باهظة في الاستحقاق الانتخابي المقبل، بينما يتخوف المستوى العسكري من تنامي «عرين الأسود» وانتشارها كحالة نضالية عامة في مناطق الضفة كافة والقدس. وفي المقابل، يقرأ «الشاباك» أن ما يجري في الضفة بداية انتفاضة، بينما يرى جيش الاحتلال أن مسار الحالة القائمة ستُطفئ نفسها بنفسها، حال الهبات السابقة.
بجميع الأحوال، يلتقي استطلاع لقناة «كان» مع نتائج الحملة العسكرية القائمة، إذ يعتقد 32% من الإسرائيليين أن أداء حكومة لابيد في التعامل مع موجة العمليات والتصعيد «جيد»، بينما يرى 60% من الجمهور أن الحكومة فشلت في التعامل مع الأحداث.
الأمن المفقود
إلا أن أسوأ ما يمكن أن يواجهه المستوطنون هو أن يُقتل الجندي المكلّف بحماية مسيراتهم وتحركاتهم في الضفة كما حدث في عملية «شافي شومرون» التي قتل فيها جندي من لواء «جفعاتي»، أثناء تأمين مسيرة للمستوطنين بالقرب من المكان. الأمر لا ينسحب فقط على صعيد فقدان الأمن الشخصي لدى المستوطنين، بل في خلق نقاش داخلي حول جدوى أن يقتل جندي من أجل تأمين تحركات المستوطنين، وإلى متى يمكن احتمال دفع مثل هذا الثمن.
قبل ذلك، في أعقاب عملية إطلاق النار في حوارة بنابلس، أعلن المستوطنون عن إقامة مجموعات مسلحة من دون الحصول على موافقة الجيش أو شرطة الاحتلال، بدعوى مساندة الجيش في تأمين الحماية وتحقيق الأمن المفقود. حينها صرّح رئيس مجلس مستوطنات شـمال الضفة الغربية، يوسي دغان أنه: «إذا لم تطلق إسرائيل عملية "السور الواقي 2"، سنعد الأيام المتبقية للكارثة الكبرى المقبلة، فنحن لم نشهد منذ فترات طويلة عمليات إطلاق نار نحو المستوطنات من مسافات قريبة، هذه رسالة بأن الردع ضعيف».
نظرة أقرب إلى الوضع القائم يلخصه المحلل السياسي في تصريح له لـ«القناة 12»: «ليس بمقدور مركبة إسرائيلية السير في بيت حنينا نصف دقيقة من بسغات زئيف، من دون أن يتم رجمها بالحجارة، وضعنا سيء للغاية... هل هذا هو معنى السيادة».
الآن، يبدو أن الرصاصات جميعها مجتمعة في بيت النار، ويبقى الفاعل الوحيد في إحكام السيطرة على الميدان وإبقاء جذوة الاشتعال بتثبيت استراتيجية المشاغلة والاستنزاف، لتقويض الحملة العسكرية وإسقاط الصورة الدعائية. هذا لأن عملية «شافي شومرون» لن تكون الأخيرة، لكن استيعاب عملية مقبلة لن يكون بالتداعيات نفسها بالنسبة إلى مؤسسة أمنية يغرقها الاستنزاف، ويرعبها سيناريو عمليتين ناجحتين لم تتجاوزهما بعد.