«لا تخافوا الموت، بل خافوا أن تحيوا حياةً غير لائقة. من لا يعرف الحقيقة فهو ببساطة جاهل، ولكن من يعرفُها ويدّعي أنها كذبة، فهو مجرم»
[الشاعر الألماني بريتولت بريشت]

هناك فرقٌ جوهري بين قول الصدق وبين قول الحقيقة، فليس كلّ قولٍ حقيقي قد يكون صادقاً، وبالعكس ليس كلّ قول صادق قد يكون حقيقيّاً. هذه من المسائل التي يطرحها المختصون بدراسة ما يُعرف بـ«الإبستمولوجيا» أو نظرية المعرفة. إلّا وصايا الشهداء، هي وحدها التي «تُبوصِلُ» لنا الطريق لمعرفة الحقيقة الصادقة. إنّ للفدائيين -وهم الواقفون على البرزخ بين الاستشهاد وبين الحياة- كشفاً يتجلّى لهم بوعيٍ حاد، لأنّ نظرهم يكون حديديّاً.
إنّ وصيّة الشهيد ليست رسالة وداع، ومخطِئٌ من يظنّ أنّ الفدائيّ الذي يكرّس حياته كلّها للحرية، قد ينهي حياته بكتابة رسالة وداع عاطفيّة لنتأثّر، لا، فالفدائي وهو يكتب وصيّته لا يتصرّف تصرّفاً مصدره اليأس والحزن على مآله، فهو لا يتحلّى بشجاعة المواجهة والموت فقط، بل بالقدرة كذلك على التحكّم بإرعاب العدوّ وخلخلة أمنه. وعلى هذا المستوى تكون وصيّة الشهيد مهمّة سياسيّة لا تقلّ أهمّيةً عن مهمتّه العسكرية.
تصميم محمد معلم

يدخل الفدائيُّ الميدان عن معرفةٍ مستقصيةٍ، و بخطّةٍ مدروسةٍ، وبدراسةٍ حادّة للوقائع، وبتحليل حالة العدوّ وقدراته، متجنّباً خوض المعركة استناداً إلى الحظّ والأماني، ملتصقاً بتحديده الصائب لتكتيكه واستراتيجيته، إذ ليس ثمّة ارتجال بطوليّ في المعركة إلّا وكان قائماً على التناسق بين الخطّة والوقائع، المغامرة مطلوبة شرط أن تستند إلى أسسٍ واقعيّة. صحيح أنّ جميع قوانين قيادة الحرب تتطوّر وفق سير التاريخ ووفق الحرب نفسها، لأنّ لا شيء في العالم يبقى ثابتاً، إلّا أنّ ذلك يعني، وبالضرورة، أنّ كلّ خطوة في الميدان تتبعها مرونة في التكتيك تلائم المستجدّ في المعركة، في هذه الحالة يتعلّم الفدائيُّ الحرب من الحرب نفسها، كما يقول ماو تسي تونغ في كتابه «استراتيجية الحرب الثورية». ولذلك، لا يمكن بتاتاً اعتبار الفدائي مجرّد كائن متحمّس حمل البندقيّة ونزل ليردي أعداءه. بل لا يمكن فصله عن الحرب باعتبارها كلّاً يتألّف من أجزاء، لأنّ -والقول هنا لماو- الذين تمرّسوا بتجربة حالة جزئية بمعارك وعمليات تكتيكية، يستطيعون الفهم على صعيد أعلى إذا استعملوا ملكة التفكير لديهم. من هنا ارتأينا بداعي الوجوب أنْ نعتبر أنّ وصايا الشهداء يمكن أنْ تشكّل خطاباً ثوريّاً لا بدّ من فهمه وفهم أبعاده.
يقول جون ديوي إنّ الحقيقة هي الفكرة النافعة فقط، أي تلك التي تحلّ مشكلة الإنسان وتجيب عن تساؤلاته. ويقول عظيمُنا باسل الأعرج في وصيّته بأنّه وجد أجوبتَه، لأنّه وجد في ثقافة الاشتباك، تلازماً لا بدّ منه بين النظرية والممارسة، وهذه جدليّة ماركسية بامتياز، وهنا ممارسة فلسفيّة عالية، تدمج بين الفلسفة الوجودية وبين الجدلية الماركسية التي لا تعوّل على النظرية من دون ممارسة. فالاشتباك هو قمّة الممارسة الفعلية والواقعية للنظرية. لا أحد يستطيع أنْ يحقّق ماهيّته إن لم ينخرط في الواقع. وكشعوب بلادها مستعمرة، لا تستطيع أنْ تحقّق ماهيتها بلا اشتباك، هذا ما يحاول قوله لنا باسل الأعرج، أنْ ليس بمقدورك كفرد عربيّ أن تجد أجوبتك عبر الثقافة وحدها، هذا يبقى ترفاً فكرياً إن لم يرتقِ للممارسة. الممارسة الحرّة في واقعٍ مستعمَر يعني حمل البندقيّة في وجه المستعمِر، وفي العمق لا يستطيع الفرد العربيّ أنْ يحقّقَ ماهيته الفردية ولا أنْ يجد أجوبته إلاّ في حالة الدفاع عن الجماعة. هذا تطوّر فلسفيٌّ حاد ينبغي فهمه في وصيّة باسل الأعرج. أتوقّع أنّ الشهيد باسل سأل نفسه هذا السؤال: هل يستطيع الإنسان بحالته الفرديّة أن يحقّق ماهيّته الحرّة في واقع جماعيّ غير حرّ؟ وأظنّه ظلّ جاهلاً بالجواب إلى أن اشتبك ووجدَ ما وجد من أجوبة. حقيقة خطاب باسل أنّه أخضع سؤاله للتجربة، وأعطانا الخلاصة إذ لم يكن أبداً شعاراً أنْ يقول: «إذا لا تريد أن تكونَ مثقّفاً مشتبكاً، فلا منّك ولا من ثقافتك» هذا خطابُنا السياسيّ المكثّف، القائم على الممارسة النظريّة وليس نظريّة الممارسة. لذلك إنّ الثقافة هي الفكرة النافعة التي تصبحُ حقيقةً حين تشتبك. من دون ذلك -وأنا أصدّق باسل- لن تجدوا أجوبتَكم.
لقد تحدّث فوكو عن الفروقات بين الخطاب الصريح والخطاب الإنجازي، معتبراً أنّ الخطاب الإنجازي يتبعه أثرٌ أو فعلٌ معروف سلفاً، ولصاحبه منزلةٌ معيّنة تمنحه سلطة فرض إنجاز الفعل من خلال القول، ولذلك هو خطاب لا ينطق بالحقّ وبالتالي لا يمكن أن يشكّل خطراً على صاحبه. مقارنةً بالخطاب الصريح الذي لا يمكن إلّا أنْ ينطق بالحقّ لأنّ صاحبه بالضرورة ذاتٌ حرّةٌ تقول ما تؤمن به وقادرة على الدخول في متاهات الخطر التي ترى في الصراحة علاقةَ شجاعةٍ تربط بين الناطق بالحقيقة وبين الحقيقة المنطوقة نفسها. ذلك أنّ «الصراحة هي أخلاق قول الحقّ في فعلها المخاطِر والحرّ».
أن يحلّفنا الشهيد إبراهيم النابلسي بأعراضنا فهو يدرك في هذه اللحظة سلّم القيم السائد في المجتمع العربي ودور العرض بالنسبة له، أظن أن هذا ليس شيئاً عَرَضَياً


عدّد فوكو أربعة أشكال من الخطابات الصريحة، وهي: خطاب النبي، وخطاب الفيلسوف، وخطاب العرّاف، وخطاب العالِم. ولنا أنْ نضيف مطمئنّين خطاب الفدائي، أو ما يسمّى وصيّة الشهيد، لأنّ سمات الخطاب الصريح، كما جاء بها فوكو، ليس لها أنْ تتضح بصورةٍ أكثر جلاءً إلّا في وصيّة الشهداء. ففي اللحظة التي يكتب فيها الفدائيّ وصيّته، تتحوّل تلك الوصيّة إلى خطاب الشهيد، هذا الخطاب إذا ما تمّت قراءتُه بوعيٍ وبانتباهٍ حادّ، تتجلّى به الصراحة كحقيقة بهيّة قائمة بذاتها، والناطق بها هو أشجع من يمكن أنْ يقولها لأنّه أكثر الناس حرّيةً وأشجعنا على المخاطرة الحقّة. المسألة هنا ليست أنّنا نفهم الفدائي بحساسية الشعراء، ولا نعامل واقعه برومانطقيّة ومثالية ساذجة، إنّنا نحاول أنْ نقدّم لمحةً بسيطةً لا تفيه حقَّه ولا حقّ القضيّة، هذه اللمحة ينبغي أن تأخذ حقّها في الدرس والبحث. فالفدائي الشهيد إن لم يكن رسولاً أو عالِماً أو فيلسوفاً -كلٌّ على حدةٍ- إلّا أنّه هو كلّ هؤلاء الذين ذُكروا فقط لأنّه فدائيٌ وشهيد. لذلك لا يكفي أن نفهم وصية الشهداء باعتبارها خطاباً عاطفياً، بل واجب علينا أن ندخل سياقها الزماني والمكاني وعلاقة الملقي بالمتلقّي (المجموعة الاجتماعية)، والمؤثرات الخارجية بكل مستوياتها. أي ينبغي أن نذهب أبعد من نص الوصية.
إذا كان فوكو قد ربط الخطاب بإنتاج السلطة، فإنّ وصيّة الفدائيّ هدفها إنتاج حالة ثورية واعية، انطلاقاً من قدرة التجربة على خلق التصورات، فالوصية باعتبارها خطاباً له متلقٍ، تستند إلى فعل واقعي حصل ويحصل في الميدان، فهي ليست ترفاً عاطفياً ولا ينبغي لها أن تتّسم به حصراً، بل هي، وقبل كل شيء آخر، الحالة القصوى من المراحل الأخيرة التي يكون الفدائي في خضمّها أثناء المعركة، بالتالي خطاب الوصية هو خطاب ثوري غير عاطفي ينطق بضرورة إبقاء شعلة النضال متّقدة، ويدعوها لأن تُحرق ما ينبغي حرقه في ساحات المعركة، ولذلك يكون خطاباً واعياً منسجماً مع دور البندقية، ومكمّلاً للمسار المقاوِم، ومؤكّداً على اقتران القول بالفعل، ومؤسّساً لأرشيف نضالي يخرج من عمق الميدان لا من برج عاجي. خطاب ينكر ذاته ويدعوك -بالضرورة- لتنكر ذاتك إذا شئت الخلاص لأرضك وناسك وأحبابك ومستقبل وجودك. وهو خطاب لا يريد أن يقنع العدو بأننا جاهزون للتضحية، بل يريد أن يمنع العدو من التطاول، فالعدو يخيفه أنّك قادرٌ على منعه، ولو أراد أن يقتنع لكانت قد أقنعته أبلغ القصائد التي ثارت فوق المنابر والتي انطفأت لحظة خروجها من المسارح.
صاحب الوصية لا يموت، ذلك لأنه أصبح حاضراً في التاريخ بعد أن كان مؤثراً حقيقيّاً في الحاضر، وحُكماً سيكون باعثاً للكثير من الفدائيين في المستقبل، وليس هناك فهم أفضل مما قاله السيد حسن نصرالله مخاطِباً العدو بأنّ «الشهيد عماد مغنية ترك آلافاً من الرجال المدربين المجهّزين الحاضرين للشهادة»، نفهم من ذلك أنّ الوصية كخطاب عادة ما تأتي موجّهةً إلى مستويين زمنيين: الزمن الحالي والزمن الآتي.
على المستوى الأوّل، وهو مستوى الزمن الحالي، تخاطب الوصيّة الميدان بما فيه من مناضلين، ليشدّوا على البندقيّة تحت أيّ ظرف وفي كلّ معركة، وتحثّهم على المواجهة ونبذ المساومة. أمّا على المستوى الثاني فالوصيّة تخاطب الزمن القادم، بما يختزنه من جيلٍ سيولد في زمن الحرب، وفي زمن التطبيع، وفي زمن يُباع فيه دمُ الموتى ويُشترى، حيوية الوصية في مثل هذا الزمن أنّها ضوء في آخر النفق، ودرس يناله من نوى حمل البندقية، ومن تدفعه نخوته للنضال، الوصيّة للزمن الآتي هي وفاءٌ لدم الشهداء، وحنكةٌ في تفعيل القول وتقويل الفعل، هي النصّ المقدّس لأيّ فدائي.
ولكن، بما يخص المستوى الأوّل، فهو يرتبط بسياق محدد، سياق يتخطّى المحلّي للإقليميّ وصولاً للدولي، فالفدائي لم يصبح فدائيّاً لأنّه يُحبّ أن يرتقي شهيداً بدافع النرجسية، إنّ القيمة الأهمّ بالنسبة إلى الفدائيّ هي كونه واعٍ أنّه غير منكفئ عن القيام بدوره، ولا يهمّه أن تكون احتمالية استشهاده واردة جدّاً، إن لم نقل حتميّةً بحكم دوره، ما يهمّه حقاً هو تغيير الحالة الكائنة لحالة ما ينبغي أن يكون، أي مواجهة الاحتلال بهدف كسره وتحرير الأرض. الأرض ليس باعتبارها حيّزاً جغرافيّاً فقط، بل باعتبارها مكاناً يتضمّن تاريخ وثقافة وأديان وعادات وحضارة الشعب الأصلي له. ولن أقول إنّ هذه فلسفة ماركسية بل هي منهجية ماركسية، بمعنى أنّ الفدائي قد لا يكون ماركسي التوجّه والأيديولوجيا، ولكنّه حتماً ماركسيّ المنهج، وعى لذلك أم لم يعِ. وذلك لأن الحديث عن السياق الذي يتخطّى المحلّي ليصل للدولي يشير إلى منهج ماركس الشمولي في تحليله للظواهر، فأنت لا تستطيع أن تفهم جزئية واحدة بمعزل عن الجزئيات الأخرى. تصبح الشمولية بهذا المعنى الماركسي دعوة لتبيين العلاقات الضرورية بين الظواهر. فما يحصل مثلاً مع الفلاح الصيني مرتبط بالضرورة بما يحصل بالرأسمالية على مستوى العالم، وعلى هذا المستوى نستطيع فهم السياق الذي من خلاله يوصينا الفدائيّ بألا نترك البندقية. لأنّ ما يحصل في فلسطين غير مرتبط حصراً بالصراع بين تنظيمات نضاليّة محلّية وبين العدو، بل هذا جزء من كلّ، فلا نستطيع أن نفهم مثلاً كيف تطوّرت قدرات غزة من أضعف حلقة في المحور إلى حالة قادرة على الصمود والتصدي وفرض الشروط إذا عزلناها عمّا يحصل على الساحة الدولية ككل. أمّا المنهج الماركسي الثاني المتّبع في فعل الفدائي الميداني ثمّ في وصيته بعد ارتقائه فهو ببساطة غاية التغيير، فخطاب الوصية ليس خطاباً تنتجه سلطة ما لتحاول تأبيد نفسها أو لتفسير حدث معين أو لإفهام جماهيرها بضرورة التمسك بنهجها. بل غاية خطاب الوصية هو التغيير، هو العمل على سيرورة دائمة لإعادة بناء الفدائي من جهة والعمل على صيرورة جعل الفدائي واقعاً ميدانياً قادراً على تغيير الواقع للأفضل عبر تراكم الوعي والإرادة والإنجازات. فالتغيير هنا هو منهج ماركسي وهو محرّك ماركس الأساسي في إنتاج فلسفته.
أمّا المستوى الثاني، فهو مرتبط بالمؤثرات الخارجية، فأن يحلّفنا الشهيد إبراهيم النابلسي بأعراضنا فهو يدرك في هذه اللحظة سلّم القيم السائد في المجتمع العربي ودور العرض بالنسبة له، أظن أن هذا ليس شيئاً عَرَضَياً، حتى لو بالغنا في تأويله. فتسليط الضوء على سلّم القيم الكامن في الوصية هو شيء ضروري في عملية تحليل نص الوصية كخطاب، وخلافاً لعلماء تحليل الخطاب الإنكلوساكسونيين والفرنكوفونيين، فإنّ نبذ الموضوعية في تحليل خطاب الوصية بالنسبة لي هو شيء أكثر من ضروري، ذلك لأنّه واجبنا كمتلقين أن نفهم الوصية باعتبارها دعوة حثيثة للنضال وليس باعتبارها مادة لتأويل ماذا يريد الفدائي.

خاتمة
إن كان ينبغي التأويل فلا بدّ من أن ينحصر ضمن سؤال: لمن يتوجّه الفدائي في وصيته. هل للجيل القادم؟ هل لطبقة معيّنة؟ هل لمجموعة اجتماعية محددة؟ هل لأفراد بعينهم؟ إذا كانت الوصيّة تستند عادة على مستويين زمنيين، فإنّها وإن كانت تستهدف بالمقام الأوّل الجيل القادم، إلا أنّها غير محدّدة الوجهة بشكل صريح، فهي لا تأتي بوضوح «يا عمّال العالم اتحدوا»، حيث يبدو هنا توجّهها واضحاً وصريحاً، بل إنّ توجّه وصية الفدائي يتنوع بحسب أيديولوجيا صاحبها، حالته النفسية، موروثاته الثقافية، إلخ... ولكنّها حتماً موجّهة لحاملي البنادق الآن ولمن عقدوا النوايا لحملها مستقبلاً. مهما كان عمرهم، ووضعهم الاجتماعي، وأيديولوجيتهم. لذا، إذا أردنا أن نجيب عن سؤال لمن يتوجّه الفدائيّ في خطاب وصيّته فلا شكّ لكلّ من آمن أنّ الكفاح المسلّح هو الحلّ، هو الوسيلة الوحيدة التي تحرّر البلاد والعباد من قيد العبودية والاستعمار والاحتلال، هو اللغة الوحيدة التي ينبغي أن نخاطب العدوَّ بها. ولذلك تنبع أهمية خطاب الوصية، وإن كان صاحبُها منظّماً تحت تنظيم ذي أيديولوجيا معينة، إلا أنّ أهمّيته تنبع من كونه يتوجه في الوقت نفسه:
1- للفدائيّ الجهادي بدافع ديني كأن يكون حملك للبندقية مرتبطاً بالمقدس. 2- وللفدائي الاستشهادي بدافع أيديولوجي كأن يكون حملك للبندقية مرتبطاً بمواجهة الإمبريالية العالمية. 3- وللفدائي الذي لا يعرف من الأمور سوى أنّ بلاده محتلّة وينبغي تحريرها.
هكذا أفهم الوصيّة كوحدة صفّ.