هُجّر الفلسطينيون بين البلدان العربية المحيطة، لبنان وسوريا والأردن ومصر والكويت والعراق. وهاجر آخرون من هذه البلدان العربية إلى دول أوروبية. مرّ المهاجرون الفلسطينيون في عدة سياقات مركزية حالت دون استمرار بقائهم في البلدان العربية التي هُجّروا إليها، من صراعات وأوضاع معيشية سيئة. لذلك، آلت بهم الظروف للهجرة والرحيل عنها باتجاه دول أوروبية مختلفة. تعود أكبر موجات هجرة الفلسطينيين إلى أوروبا إلى ما بعد نكسة 1967، وأحداث «أيلول الأسود» عام 1970، بالإضافة إلى الحرب الأهلية في لبنان (1975-1989) ومجزرة صبرا وشتيلا، وأخيراً توقيع اتفاقية أوسلو في سنوات التسعينيات.لم تكن الهجرة الفلسطينية إلى أوروبا باتجاه دولة بعينها، بل كانت موزّعة بين عدة بلدان، خصوصاً الدول التي كانت تعطي الحق في الإقامة. ويمكننا القول إن جزءاً منها لأسباب سياسية بدأ باتجاه أوروبا بشكل تلقائي بعد إعلان إقامة دولة الاحتلال عام 1948. الجدير ذكره هنا أن الحكومة البريطانية سنّت في الخمسينيات قانوناً يسهّل مجيء الفلسطينيين، كما وسهّلت إجراءات الحصول على الجنسية، الأمر الذي يثير التساؤلات حول الأسباب التي جعلت بريطانيا تسهّل هجرة وتجنيس الفلسطينيين فيها في تلك الفترة!
(سليمان منصور)

انقسم معظم الفلسطينيين الموجودين في البلدان الأوروبية بين طالبين للعلم، غالبيتهم من طبقة اجتماعية جيدة إلى برجوازية، وبين عمّال، انتهوا جميعهم إلى العيش والاستقرار فيها. من ناحية، بدأت موجة من آلاف العمّال الفلسطينيبن باتجاه أوروبا عبر عقود عمل ممنوحة بناءً على اتفاق بين الحكومة الأردنية وحكومة ألمانيا الغربية. من ناحية ثانية، قدم مهاجرون آخرون عبر برامج مساعدة اللاجئين الفلسطينيين التي تم طرحها في السويد في ستينيات القرن الماضي. غير ذلك، يمكن عزو هجرة الفلسطينيين إلى تعاون منظمة التحرير الفلسطينية مع الجمهورية الألمانية الديموقراطية (ألمانيا الشرقية).
يلاحظ أن معظم العمّال والطلاب الفلسطينيين الذين ذهبوا إلى أوروبا بقوا فيها. لكن إحصاء تعداد الفلسطينيين في الشتات الأوروبي عملية صعبة وغير دقيقة. يعود السبب إلى جملة عوامل، منها تسجيلهم في السجلات المدنية بجنسيات مختلفة، كالأردنية والسورية واللبنانية وغيرها من الجنسيات، كالأوروبية التي تجنّس بها الفلسطينيون، أو لاعتبارهم عديمي الجنسية بكل بساطة. وهو أمر يمكن ملاحظته بسهولة في معظم الجامعات الفرنسية والإنكليزية.
يمكننا القول إن التعاطي الأوروبي مع «فلسطينيّة الفلسطينيين» يأتي استجابة لطريقة تعاطي الاحتلال الإسرائيلي معهم


وهنا إشارة إلى الصعوبات التي يتعرّض لها الطلاب الفلسطينيون في الخارج عند التسجيل للجامعات أو في الإجراءات الإدارية المدنية كافة في تلك البلدان. على سبيل المثال، لا يمكن للطالب الفلسطيني أن يجد اسم بلده ضمن بلدان العالم المقترحة عند التسجيل في جامعة السوربون. وعلى هذا النسق، تغيب فلسطين عن قائمة بيانات معظم الجامعات، أو تتم الإشارة إليها بأجزاء منها كالتالي: «الأراضي الفلسطينية» (territoires palestiniens) و«غزة -أريحا» (Gaza-Jéricho) أو «بدون» (sans nationalité).
يمكننا القول إن التعاطي الأوروبي مع «فلسطينيّة الفلسطينيين» يأتي استجابة لطريقة تعاطي الاحتلال الإسرائيلي معهم. فأحياناً يمكننا استشفاف التفاهم الضمني بين آلة الاحتلال وبين التعاطي الأوروبي، وأحياناً يعكس التعاطي الأوروبي، كما في حالة فرنسا، ضياعاً إدارياً بين ما هو قائم وغير قائم. على سبيل المثال: إرفاق كلمة «إسرائيل» إلى جانب «القدس» كمدينة الولادة، سواء على بطاقة الإقامة أو وثائق الأحوال الشخصية كشهادات القيد العائلي وغيرها. وعند الاستنكار وطلب التغيير تتم الاستجابة أحياناً ويُمحى اسم دولة الاحتلال، إلا أن إرفاق اسم دولة الاحتلال ابتداء غير مبرر، بحكم عدم البت الأوروبي بعد في أن القدس عاصمة إسرائيل.
اكتملت نكبة الفلسطينيين عامة، وفلسطينيي الشتات خاصة، بتوقيع اتفاقية أوسلو التي تجاهلت وجودهم، بل واكتفت بفتات أرض فلسطين، على قاعدة الاعتراف المتبادل مع دولة الاحتلال على مستوى التاريخ والذاكرة. شكّلت هذه الحقبة تحولاً جذرياً في مكانة الأرض والوطن والجماعة التي شكّلت الذاكرة الجامعة على أساسه. كما وعمل الاتفاق اللاحق لوثيقة الاستقلال عام 1988 على تعليق مكانة الجزء الأعظم من الشعب الفلسطيني في الشتات وفلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1948 الذين تجاهلت حقوقهم كمواطنين فلسطينيين أصحاب حق بالعودة والتعويض. نجد هنا استمراراً لنكبة 1948، لا تبعات لها فحسب، بل استهدافاً مباشراً لعناصر الهُوية من وعي للذات والذاكرة والأرض والعلاقة بينهما عبر سلسلة من عمليات التشويه والمحو غير المقتصرة على صعيد الوطن بل على صعيد العالم.