يرى المؤرّخ الفلسطيني مصطفى مراد الدباغ، في كتاب «بلادنا فلسطين»، أنّ مصطلح «فوكين» يعود إلى الجذر اللغوي الآرامي «سوك»، وتعني باللغة العربية «الشوك»، وبذلك تكون تسمية البلدة التاريخية «وادي الشوك»، ويعود ذلك لكثرة وجود النبتات الشوكية في الوادي الذي تمتد فيه البلدة، والذي تتواجد فيه 11 عين ماء، دائمة الجريان. تبلغ مساحة البلدة بكامل ترابها حوالي 9982 دونماً، وتميّزت القرية، إلى جانب زراعة الزيتون والعنب والتين واللوزيات، بزراعة الخُضر بأنواعها كافة، لغزارة مياهها.
تتمتع «وادي فوكين» بموقعٍ استراتيجي، إذ تحدها من الغرب والشمال بلدات: القبو وراس أبو عمار وعلار، وهي قرى مقدسية احتُلت ودُمرت في عام 1948. أمّا من الجنوب، فتحدّها بلدتا صوريف والجبعة، التابعتان لقضاء الخليل. ومن الشرق تحدّها بلدة حوسان، التي اغتصبت مستوطنة «بيتار عيليت» تلتها الزراعية الغربية.
«بتقدر تهاجمها، بس ما بتقدر تحتلها»، هكذا وصف أبو نادر مناصرة، أحد أهالي البلدة، والصحافيين الذين وثقوا تاريخها، طبيعة الموقع الجيوستراتيجي لوادي فوكين. تاريخياً، كانت قرية وادي فوكين ضمن قرى قضاء القدس خلال فترة الحكم العثماني، والاحتلال البريطاني، ثم الحكم الأردني. وفي عام 1988 أعلن الاحتلال ضمّها إلى حدود بلدية بيت لحم، هي وأخواتها: الولجة، وبتير، وحوسان، ونحالين، فيما تم ضم جارتها الجبعة إلى بلدية الخليل.

لم تستسلم للنكبة
يروي المناصرة جزءاً من التاريخ النضالي لوادي فوكين خلال الفترة التي سبقت نكبة عام 1948، وخلالها. فعلى الرغم من عدم وقوع معارك مركزية في البلدة خلال الحرب التي امتدت بين عامَي 1947 و1948، فإنّ أهالي البلدة شاركوا في العديد من المعارك المركزية ضمن جيش الجهاد المقدس بقيادة الشهيد عبد القادر الحسيني. ومن أبرز هؤلاء الشهيد يوسف عطا مناصرة، الذي قاتل في معارك: القطمون، والقسطل، والدهيشة، وظهر الحجة، واستشهد في معركة بني نعيم إلى الشرق من الخليل. ومع احتدام المعارك في حرب عام 1948، اتخذ قادة جيش الجهاد المقدس، عبد القادر الحسيني، وفؤاد نصار، وإبراهيم أبو دية، من وادي فوكين مقرّاً لهم، لفترة مؤقتة، وبعد أن بدأت العصابات الصهيونية بتنفيذ مخطط «داليد» وما تلاه من مخططات لاحتلال بلدات وقرى غرب القدس وتهجيرها، نزل في وادي فوكين العديد من المهجّرين من البلدات المجاورة، لفترات مؤقتة.
وفي نهايات عام 1948، وبعد مقاومة عنيفة من أهل البلدة تم احتلال المركز التاريخي لوادي فوكين من العصابات الصهيونية، فيما لم يتم احتلال الأراضي الزراعية للبلدة، والتي تمسّك بها أهلها، وخلال مفاوضات هدنة «رودس» في عام 1949، تم اعتبار وادي فوكين «أرضاً حراماً»، وجاءت تلك المفاوضات بعد معارك حامية الوطيس بين أهالي البلدة والعصابات الصهيونية، قُتل خلالها ضابط صهيوني مهم، وفشلت بعد تلك المعارك كل محاولات الاستيلاء على الأراضي الزراعية لها. بموجب اعتبار وادي فوكين أرضاً حراماً، مُنع أهالي البلدة من الدخول إليها، إلا من الساعة الخامسة فجراً وحتى الخامسة عصراً، فيما أقام أهالي وادي فوكين في بلدة نحالين المجاورة. ولكن الاحتلال الصهيوني لم ينسَ المقاومة الضارية التي خاضها أهالي وادي فوكين ضده، فارتكب في عام 1954 مجزرةً في بلدة نحالين، على يد الكتيبة 101 في جيش الاحتلال الصهيوني، بقيادة أرئيل شارون، واستهدفت المجزرة من استضافوا أهالي وادي فوكين، وبعد المجزرة انتقل معظم أهالي البلدة للإقامة في مخيم دهيشة بالقرب من بيت لحم، ولكن وكالة «الأونروا» اعتبرت أهالي وادي فوكين «نصف لاجئين» نظراً إلى أنّ نصف بلدتهم محتلة، فيما يتمكنون من العودة للجزء غير المحتل من بلدتهم يومياً، فمُنحوا نصف مساحات الوحدات السكنية، ونصف المؤن والأدوية.

سلة غذائية للقدس والخليل وبيت لحم
خلال السنوات بين عامَي 1949 و1967، حافظ أهالي وادي فوكين على الزراعة في البلدة، إذ باتت الزراعة هويةً لأهالي البلدة وسلاحاً للصمود والبقاء. وبحكم طبيعتها الجغرافية، إذ تقع في وادٍ يحتوي على 11 عين ماء جارية، فقد تميّزت البلدة بزراعة مختلف أنواع الخُضر والورقيات، التي تُعتبر من المكونات والمواد الأساسية في المائدة الفلسطينية. وبعد تحوّل عدد من البلدات المجاورة من الطبيعة الزراعية إلى الطبيعة السكنية، كسلوان وجبل المكبر، جنوب القدس، باتت وادي فوكين من المناطق الزراعية الأبرز في جنوب الضفة الغربية، وباتت، حتى عام 1967، سلة غذاء للقدس وبيت لحم والخليل.
يستهدف الاحتلال شرق البلدة بمشروع استيطاني لربط طريق 335 الاستيطاني في «بيت شميش»، غرب القدس، مع مفترق عتصيون، إلى الشمال من الخليل


ولادة جديدة
في حزيران من عام 1967، توحّدت فلسطين من جديد، ولكن تحت الاحتلال الصهيوني، فاحتضنت قراها ومدنها ومخيّماتها بعضُها بعضاً بألم، وبعد سنوات من الاحتلال ومع بدء تصاعد الحالة الشعبية في فلسطين المحتلة، بدأ أهالي وادي فوكين يفكّرون في العودة إلى بلدتهم. ينقل أبو نادر مناصرة ما دار من نقاشات بين أهالي البلدة في تلك الفترة: «المنطقة الحرام كانت قبل الاحتلال، بس اليوم كل فلسطين تحت الاحتلال، فليش ما نرجع على البلد». وبالفعل، وبعد جهد تنظيمي من عددٍ من أهالي البلدة، عبر تشكيل عدة لجان شعبية، تم في 16/2/1972. شارك في إعادة بناء وادي فوكين معظم فئات البلدة، بتكامل وتوزيع للأدوار. تم شراء الحديد والإسمنت فقط من خارج البلدة. وحاول الاحتلال تهجير الأهالي، وصمد الأهالي في وجه رصاص الاحتلال، ولكن الاحتلال اشترط عليهم تسليم مفاتيح بيوتهم في الدهيشة، لأن ذلك تزامن مع مشروع «بن بوراك» لتوطين اللاجئين، وتم تسليم المفاتيح للوكالة التي سلّمت للاحتلال الذي كان يعمل على عدة مشاريع لتوطين اللاجئين كالأمل والبرازيلي وكندا، في غزة. رفض الاحتلال إنشاء البنية التحتية، ولكن الجهود التطوعية من أهل الخليل وبيت لحم تمخّضت عن إنشاء الطريق الرئيسي بطول 3 كلم، وكذلك الحال مع مدرسة البلدة، التي عمل على بنائها أحمد سعدات، الأمين العام الحالي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الأسير في سجون الاحتلال، إذ كان دخول البلدة يتم من مداخلها عبر الجبال، لأن الاحتلال أغلق المدخل الرئيسي.

الزراعة لمقاومة الاستيطان
اشتهرت وادي فوكين منذ القدم بزراعة الخُضر والحقليات. وعلى الرغم من وجود عدد لا بأس به من أشجار الزيتون في البلدة، فإنّ البلدة لم تشتهر بزراعتها. وفي عام 1982، ومع بدء تبني الاحتلال الصهيوني، بمختلف مستوياته، للاستيطان في الضفة الغربية، بدأت محاولات سلطات الاحتلال الاستيلاء على مختلف الأراضي في الضفة. وقد كان قانون الأراضي الصادر في عام 1858 في فلسطين، والذي ينص على أنّ من حق الدولة الاستيلاء على أي أرض «بور» في حال عدم زراعتها لمدة 3 سنوات، إذ جيّر الاحتلال هذا القانون العثماني لاستصلاح الأراضي لمصالحه الاستعمارية. وهنا تنبه أهالي وادي فوكين، والفعاليات الشعبية في جنوب الضفة إلى خطورة الوضع، إذ تلتصق البلدة بالخط الفاصل بين الضفة والمناطق المحتلة في عام 1948، فتم الاتفاق على العمل على زراعة الزيتون بجهدٍ مشترك من أهاليها والمؤسسات الشعبية المختلفة. وبدأ غرس أشجار الزيتون عبر إحياء مفهوم «العونة» التاريخي، ولغاية هذا اليوم تُعد الزراعة وسيلة المقاومة والصمود الأبرز في وادي فوكين. يخبر محمد قطيشات، مدير المشاريع التأهيلية في «الجمعية العربية لحماية الطبيعة»، وهي جمعية أردنية تبنّت برنامج «المليون شجرة في فلسطين» منذ عام 2003، عن الجهود التي تبذلها الجمعية مع أهالي وادي فوكين وما حولها، إذ تعتمد استراتيجية العمل في تلك المناطق على زراعة الأشجار المثمرة فيها من أجل منع الاحتلال من الاستيلاء على أراضي تلك البلدات، وتحقيق الأمن الغذائي فيها. ويقول: «نسعى هذا العام، ومن خلال حملة (ازرع صمودك) ضمن برنامج المليون شجرة في فلسطين، الموجهة لطلاب الجامعات الأردنية، إلى التركيز على استهداف قرى جنوب غرب القدس ومن أبرزها وادي فوكين، إذ إنها من أكثر المناطق استهدافاً بالاستيطان الهادف إلى عزل جنوب القدس عن امتدادها العربي، في الخليل وبيت لحم».

حرب المياه
على أراضي ما يقرب الـ 7 آلاف دونم من أراضي وادي فوكين، التي احتلتها العصابات الصهيونية في عام 1948، أقام الاحتلال مستوطنة «تسور هداسا» التي تنتصب على تلة كانت تقوم عليها بلدة فوكين. واتخذ الاحتلال من تلك المستوطنة «تعاونية زراعية»، فعمد إلى زراعتها باللوزيات، وتربية الدواجن فيها، وفي سبيل ذلك عمل الاحتلال على استهداف المياه الجوفية في محيط المنطقة. وبعد احتلال الضفة الغربية في عام 1967، تم تجفيف 5 ينابيع من أصل 11 في البلدة. وبالتوازي، يتعمّد الاحتلال الصهيوني تصريف المياه العادمة من مستوطنتي «تسور هداسا» و«بيتار عيليت» نحو الأراضي الزراعية في البلدة، ولكن وفي سبيل الصمود في معركة المياه أمام الاحتلال أقام الأهالي، وبدعمٍ من العديد من المؤسسات الشعبية الخيرية، مشاريع بناء السدود التجميعية في البلدة.

بين فكَّي كماشة
شكّلت مستوطنة «تسور هداسا» كابوساً لأهالي وادي فوكين، إذ اغتصبت أراضيهم، واستهدفت الزراعة في عقر دار بلدتهم. ولكن ومع تصاعد الاستيطان في الضفة بعد عام 1982، ظهر كابوسٌ جديد ليطبق فكَّي الكماشة، وهي مستوطنة «بيتار عيليت» التي أنشأتها الجمعيات الاستيطانية الصهيونية اليمينية في عام 1985، على أراضي بلدة حوسان المجاورة، على تلةٍ مشرفة، واليوم تصمد وادي فوكين بوادٍ بين تلتين، شرقية تقع عليها «بيتار عيليت» وغربية تقع عليها «تسور هداسا».
لا يتوقف العدوان الصهيوني هنا، إذ يستهدف الاحتلال شرق البلدة بمشروع استيطاني لربط طريق 335 الاستيطاني في «بيت شميش»، غرب القدس، مع مفترق عتصيون، إلى الشمال من الخليل، ويمر الطريق بأراضي وادي فوكين. من الجهة الشمالية تم طرح عطاءات لمشروع استيطاني صناعي، يخدم مستوطنات جنوب القدس. ومن الجهة الغربية يجري العمل لتوسيع مستوطنة «تسور هداسا»، وتأتي تلك المخططات في سياق خطة صهيونية مركزية تهدف لـ«محو الخط الأخضر» عبر تهجير البلدات المتاخمة للخط، كالولجة وبتير وحوسان، جنوب القدس، في سعيٍ من الاحتلال لخلق نكبة جديدة، متناسياً أنّ أهالي تلك البلدات رفضوا النكبة الأولى، فكيف سيقبلون بالثانية؟