يوم الأرض تتمّة لمسلسل النكبة وما قبلها؛ مشروع صهيوني استعماري استيطاني، بدأت ملامحه بالتطور بعد احتكار ثيودور هرتزل لفكرته وتحويلها من النظري إلى العملي. يظن البعض عند الحديث عن الصهيونية أنها مفهوم ثابت ذو تعريف واضح ومحدد قاد إلى ما آل إليه المشروع الإحلالي اليوم. ويظن آخرون أن المشروع الصهيوني كان المشروع الوحيد الذي عبّر عن اليهود في القرنين التاسع عشر والعشرين. إلا أن الواقع التاريخي يقول إن مشروع هرتزل الصهيوني ما هو إلا تتمة للجدل الذي ساد عدة قرون سابقة حول الصهيونية واليهود.يُعتبر المشروع الصهيوني، بصورته الحالية، خلاصة عدة قرون من النظريات التي حيكت لتفسيره، عبر عدد لا بأس به من المنظّرين الذين حاولوا تفسيره، كل على هوى قناعاته وحاجاته وطريقة تفسيره لليهودية. يعتقد البعض أن الصهيونية مختزلة بصهيونية هرتزل، أي الصهيونية العملية الحديثة التي نظّر لها هرتزل ورفاقه، وساروا باتجاه تحقيقها. إلا أن الحقيقة التاريخية تشير إلى أن صهيونية هرتزل ليست إلا واحدة من النظريات بالخصوص. بل هي، إن جاز القول، خلاصة كل ما سبقها من نظريات، جاءت رداً على المسألة اليهودية في أوروبا، على حدّ ادعاء هرتزل.
جاءت الصهيونية في سياق ثقافي وفكري وتاريخي متنوّع، من نشوء الفكر القومي والمدني الأوروبي الحديث، منذ الثورة الفرنسية، إلى مسألة اليهود واندماجهم في الدول الأوروبية الحديثة وخطاب اللاسامية. فيرى البعض، كيعقوب تالمون، أن الصهيونية جاءت كرد فعل على القومية الحديثة. بينما يرى غيره أنها تحقيق لليوتوبيا اليهودية وعودة اليهود إلى التاريخ. كما ويفسّر آخرون أنها نتاج للتحولات الأوروبية في لحظة تاريخية محددة، أي نتاج حيثيات تاريخية أوروبية ظهرت في مطلع القرن العشرين. وكما يرى إيلان بابيه، أن الصهيونية عند تأسيسها كانت حركة تحاول معالجة مشكلة يهود أوروبا من خلال القومية اليهودية والتجمع في مكان جغرافي واحد، إلا أن الأسلوب الذي تم استخدامه لتحقيق ذلك هو الاستعمار الاستيطاني.
نظّر عدد من المنظّرين للصهيونية، فمنهم من اعتبرها فكرة روحانية وآخرون حصروها في حيّز جغرافي معين. ففي الوقت الذي اعتبر فيه سبينوزا (1632) أن التوراة هو نص إنساني وأن أرض إسرائيل هي شيء روحاني غير متعلق بأرض جغرافية، كان الحاخام يهودا مقلعي (1798-1878) أوّل من دعا إلى الـ«عودة» عام 1843 عبر تنظيم المجتمع اليهودي، بل ودعا إلى شراء الأرض. يتفق موسى هس (1812-1875) مع القلعي بأن الأرض مكوّن أساسي لتجميع اليهود، فرأى أن الإنسان الاجتماعي كالحيوان والنبات، بحاجة إلى تربة حرة ليتطور وينمو فيها. وبدون هذه الأرض الحرة سيبقى طفيلياً بين أمم الأرض ولن يشارك الشعب اليهودي في الحركة التاريخية إلا بوجود وطن أصلي له. بالإضافة إلى هس والقلعي، دعا ليو بينسكر (1821-1891)، في كتابه «التحرر الذاتي» إخوته اليهود إلى العمل واكتساب الوعي. فكان يرى أن اليهود غرباء في البلاد التي وُجدوا فيها وسيبقون ضيوفاً فيها، بل ووصفهم كعنصر غير متجانس موجود بين الشعوب التي يعيش فيها، وليس بالإمكان توقع وجود تكافؤ بين اليهود وباقي الشعوب. إلا أنه اعتبر أن الشعب اليهودي غير مكتمل الشروط لتشكيل أمة وذلك لغياب فكرة «الوجود» المتمثلة في غياب اللغة والأخلاق بالإضافة إلى غياب التواصل المكاني الحقيقي.
في المقابل، رأى أدموند فليغ (1874-1963) أن الوطن القومي اليهودي هو فقط لأولئك اليهود الذين يشعرون بأن لا وطن آخر لهم. بينما اعتبر برنارد لازار (1865-1903)، أن تعبير «أنا قومي» لا تعني أنا إنسان يهودي يسعى لإعادة بناء دولة يهودية في فلسطين ويحلم بفتح القدس، بل «أريد أن أكون إنساناً يتمتع بالحرية التامة» في الأوطان التي وُجد فيها.
كانت أفكار ثيودور هرتزل (1860-1904)، مؤسس الصهيونية السياسية الحديثة، في بداية عهدها قريبة من أفكار لازار في بداية عهده. حيث اعتبر هرتزل أن المسألة اليهودية هي مسألة اجتماعية في الدرجة الأول وليست قومية أو دينية. بل وإن العداء ضد السامية هو بسبب اليهود أنفسهم، وللتخلص من هذا العداء يجب أن يتخلص اليهود من المزايا التي تثير التعصب ضدهم. وبالتالي الحلُّ، بنظره، يكون إمّا بالمحاربة أو بالاندماج والتزاوج. لكن مع نهاية عام 1894، بدأ هرتزل يعتبر العداء للسامية بمثابة ظاهرة جيّدة لتثقيف الخلق اليهودي وتطويره. وفي عام 1895، قام بتسييس المسألة اليهودية التي كان يعتبرها اجتماعية، وتزعّم الدعوة الصهيونية الحديثة. إلى أن صدرت كراسته «الدولة اليهودية» عام 1896، والتي عبّر فيها أن الحل يكمن عبر تأسيس دولة يهودية بالاتفاق الدولي، مع هامش ترك خيار اختيار الأرض لليهود الذين سيقيمون عليها دولتهم، رغم تفضيله لفلسطين.
تجدر الإشارة إلى أنه، حتى وقت الهولوكوست، لم تكن الحركة الصهيونية أكبر حركة قومية يهودية في أوروبا، بل كانت حركة البوند. فهي حركة اشتراكية عمالية يهودية قومية نشأت في التجمعات اليهودية الكثيفة في روسيا، نادت باتحاد العمال اليهود في جميع العالم. من أهم أسسها الإيديولوجية هو المطالبة بحقوق فردية لجميع سكان البلاد، وحقوق جماعية لكل فئة اثنية. حاربتها العديد من البلدان وتعرضت لمحاولات عدة للإطاحة بها من قبل لينين، إلى أن انتهت رسمياً عام 1945. كانت البوند ترى أن الحركة الصهيونية هي نتاج العداء السامي، بل وإنها تتجاوب مع الادعاءات اللاسامية التي تدّعي أن اليهود غرباء.
مرّ الاستيطان اليهودي على أرض فلسطين قبل سايكس بيكو بعدة مراحل. فكانت بدايات الهجرة اليهودية المنظّمة مع «هواة صهيون» أو «أحباء صهيون» التي أُطلقت في بروسيا وبولونيا ورومانيا، وعُرفت بالهجرة اليهودية الأولى بين عامَي 1882و1904. كانت «أحباء صهيون» حركة عفوية اتجهت بداية نحو أميركا وجزء إلى فلسطين. هدفت إلى خلق مجتمع يهودي جديد يعيش حياة عمل وإنتاج يختلف عن المجتمع اليهودي في المهجر. إلا أن تجربة الاستيطان الأولى التي بدأوها وأكملها روتشيلد لم تحظَ بنجاح باهر. فكانت الهجرة الثانية بين عامَي 1904و1914 التي تُعتبر، بناءً على الرواية الصهيونية، أنها الفترة الحاسمة والمهمة التي خلالها تأسّست معالم «اليشوف» وصولاً إلى عام 1948. بدأت الصهيونية بالحضور كحركة إحياء قومي في أوروبا في أواخر ثمانينيات القرن التاسع عشر. ومع نهاية القرن وبداية القرن العشرين، ربط هرتزل ومعظم قادة الحركة الصهيونية هذا الإحياء القومي باستعمار فلسطين. وعلى أثره تم تحويل فكرة «أرض إسرائيل» الموجودة في الديانة اليهودية كقبلة حجّ مقدسة إلى دولة علمانية، أي أن الصهيونية جعلت اليهودية علمانية وقومية، ولأجل تحقيق ذلك، جعل الصهاينة من الأرض التوراتية مهداً لحركتهم القومية الجديدة. وعليه، لم تكن فلسطين في نظر العديد من الصهاينة حتى أرضاً «محتلة»، بل كانت أرضاً خالية من البشر. والسكان الأصليون عبارة عن كائنات غير مرئية، بل وجزء من عقبات الطبيعة التي يجب إزالتها.
ولأجل هذا كله، سيبقى الاستيلاء على الأرض ما بقي المشروع الصهيوني الاستيطاني الإحلالي، الذي اعتبر ولا يزال يعتبر الأصلاني معيقاً طبيعياً وجب التخلّص منه.