ما وراء الأقنعة: عن الطائفية السياسية في العراق وسوريا
دفاعاً عن هيمنة الطائفة الأكبر
إنَّ تشبث السلفيين الجهاديين وزعيمهم أحمد الشرع (الجولاني) برفض التقسيم الطائفي والعرقي للحكم والمجتمع السوري لا يعني تلقائياً أنَّ هؤلاء المتشبثين وطنيون ديموقراطيون، بقدر ما يعني، بالنتيجة والمآل، تشبّثهم بزعامة الطائفة الأكبر «السُّنية» ومحاولة فرض سيادتها السياسية على باقي الطوائف والإثنيات، بمن فيهم جماهير الطائفة الأكبر نفسها، وعلى مفاتيح العملية السيا-مجتمعية طالما لم يبرحوا أرضيتهم المذهبية السلفية السنّية!
إنها الصورة ذاتها من حيث الجوهر ولكنها مقلوبة من حيث الشكل، التي حاول الاحتلال الأميركي ترسيخها عند بناء المنظومة الحاكمة العراقية بعد 9 نيسان 2003 يوم احتلال بغداد.
فهذه الصورة قد تبدو معكوسة شكلاً، حيث تم تفكيك المجتمع العراقي المضغوط تحت وطأة الاستبداد البعثي طوال أربعة عقود، إلى مكونات وهويات فرعية طائفية (سنية وشيعية) وعرقية (عربية وكردية) وتهميش المكونات الأخرى، ولكن الهدف هو ذاته؛ تسْييد الطائفة الأكبر إحصائياً (تخميناً طبعاً فلم تجرِ أي إحصائيات لذوي الهويات الفرعية).
إنه تسييد للساسة ممثلي الطائفة الشيعية المتحالفين سياسياً ووظيفياً مع الاحتلال (خارجياً) ومع الإقطاع السياسي الكردي (داخلياً)، ليقوموا بدورهم المرسوم أميركياً لتفكيك المجتمع ورفع لواء الهويات الفرعية الطائفية والعرقية والعشائرية على حساب الهوية الوطنية الرئيسية العراقية.
وحتى هنا، فإنَّ رفض الساسة العرب السُّنة في العراق للطائفية السياسية، قبل أن يلتحقوا بالعملية ويمنحوها الشرعية المجتمعية الكاملة بعد كسر الرفض الشعبي العارم لدستور المكونات في المحافظات الثلاث ذات الغالبية السكانية العربية السنّية. هذا الكسر الذي ارتكبه كما هو معروف الفرع العراقي لحركة «الإخوان المسلمين» («الحزب الإسلامي» بزعامة طارق الهاشمي) بعد مفاوضات سرّية وإغراءات قدّمتها لهم إدارة الاحتلال الأميركي؛ أقول إن هذا الرفض السياسي في البداية لم يأتِ من دوافع وطنية في العمق بقدر ما كان دافعه الأرأس استرجاع الهيمنة الطائفية السياسية والتي دامت طوال عهد الدولة العراقية الحديثة.
الطائفة والطائفية السياسية
إنّ من بديهيات علم الاجتماع السياسي الحديث، التفريق، ماهيةً ووظيفةً، بين الطائفة والطائفية السياسية. والقول إن الطائفية السياسية ليست كيانية مجتمعية ومؤسسية صلبة وثابتة، بل هي نمط من العلاقات التي تنظّم حركة وبناء مؤسسات الحكم بموجب رؤية ومنهج سياسي طائفي استحواذي يتاجر باسم الطائفة وكيانيتها المتحولة القلقة كهوية فرعية تحتدم وتخفت حسب الظروف الاجتما-سية التاريخية في مجتمعات في طور الاندماج. وعلى هذا، يخطئ الذين يبشرون بنظرية (ليبرالية قشرية وأورومركزية) فاسدة تقول: «هذه هي مجتمعاتكم العربية الإسلامية وهذه هي حقيقتها: إنها طوائف وعرقيات متذابحة طوال التاريخ ويجب تنظيم حكمها بتقسيم حصصها في الحكم على ممثليها»!
إنّ هذا الشكل الظاهري للمشهد السياسي في البلدين يمكن اعتباره القناع الأيديولوجي الذي تحاول قوى الطائفية السياسية، في سوريا وقبلها في العراق، أن تغلف به أهداف برامجها التفتيتية للمجتمع، وخاصة لعدوها الرئيسي ممثلاً بالقوى الوطنية الديموقراطية التقدّمية
فهذه الأكذوبة يفضحها أولاً؛ أن هذه المجتمعات لا تختلف عن المجتمعات التي أخذت بأنظمة الحكم اللاطائفية، بل وحرَّمت الطائفية السياسية. فهي مجتمعات مكونة هي الأخرى من طوائف وعرقيات وأديان عدة ولا نكاد نجد مجتمعاً واحديَ التكوين، من روسيا شرقاً التي توصف بحديقة الأديان والطوائف واللغات وحتى الكونفدرالية السويسرية غرباً والقائمة على مناصفة إحصائية مجتمعية بين الكاثوليك والبروتستانت وذات الحكم الديموقراطي العلماني بلغاته الرسمية الأربع وكانتوناته شبه المستقلة الستة وعشرين.
ويفضحها ثانياً؛ أن هذا التقاسم الطائفي والعرقي ليس إلا تقاسماً لغنائم الحكم والمال العام بين الحاكمين من ساسة طائفيين فاسدين كما تجلى في التجربة العراقية، وليس تقاسماً عادلاً اجتماعياً لخيرات البلد بين أبناء الطوائف.
وأخيراً، فإن مَن يحمي هذه الأنظمة الطائفية ويجمد حركة تطور مجتمعاتها في حالة من التبعية السياسية وفقدان السيادة والاقتصاد الاستهلاكي الريعي ومنزوع السلاح والدفاعات عسكرياً في حالة العراق منذ أكثر من عقدين، هو نفسه من يريد أن يزج فيها بسوريا اليوم وجعلها ملحقاً سياحياً وسوقاً استهلاكياً لتركيا الأطلسية بتمويل سخي قَطري!
الطائفية السياسية من المنظور الطبقي
من ناحية اجتما-سية (سوسيوبولتيكية)، فإنَّ ما يجري في سوريا من حيث النوع والعمق هو الوجه الآخر لما جرى في العراق، ففي الأولى يجري تثبيت هيمنة الطائفة الأكبر «العربية السنّية» تحت شعارات «وطنية»، ليستمرّ بالنتيجة اضطهاد الغالبية بمن فيهم الكادحون من «العرب السنّة» باسم هذه الشعارات. وفي الثاني -العراق - جرى تقسيم المجتمع بين ساسة طائفيين فاسدين تحالفوا مع الاحتلال الأجنبي ودمّروا الدولة والمجتمع وحولوهما إلى حصص غنائمية لهم ولمحازبيهم، وسيستمر الحال على ما هو عليه في البلدين حتى يقوم حكم ديموقراطي مساواتي.
إنّ هذا الشكل الظاهري للمشهد السياسي في البلدين يمكن اعتباره القناع الأيديولوجي الذي تحاول قوى الطائفية السياسية، في سوريا وقبلها في العراق، أن تغلف به أهداف برامجها التفتيتية للمجتمع، وخاصة لعدوها الرئيسي ممثلاً بالقوى الوطنية الديموقراطية التقدّمية. وهو يهدف بالدرجة الأولى - كما أشار الراحل مهدي عامل بصواب - إلى «أداء وظيفة سياسية أساسية هي إظهار الانقسام الأفقي الطبقي للمجتمع بمظهر الانقسام العمودي بين الطوائف، لا بين الطبقات.
فوظيفة هذا الانقسام العمودي الطائفي للمجتمع هي تأمين التفتت الطائفي للجماهير الشعبية الواقعة تحت الاستغلال الطبقي». لكن هذه الجماهير تصير قوة سياسية موحدة، يضيف مهدي عامل: «حين تتوحّد طبقياً ووطنياً حول مصالحها المشتركة، وحين تتمثّل سياسياً بأحزابها التقدّمية، أي بممثّليها الفعليين، لا بالزعماء التقليديين» (مهدي عامل، مناقشات وأحاديث ص 336). ويمكن أن نجد في الشعار الذي رفع في لبنان في سنوات الحرب الأهلية من قبل بعض فصائل اليسار والقائل: «يا كادحي جميع الطوائف اتحدوا» فهماً أولياً وتبسيطياً لهذا التعبير العاملي.
وفي موضع آخر، يوضح مهدي عامل فكرته أكثر فيقول: «إنَّ الشكل الطائفي لدولة البورجوازية اللبنانية أساسي لوجودها كدولة طبقية بورجوازية. هذا الشكل يسمح للبورجوازية بالتحكم في مجرى الصراع الطبقي، بإبقاء الطبقات الكادحة فيه أسيرة علاقة من التبعية الطبقية بها هي، بالتحديد، علاقة تمثيل طائفي تربط الطبقات بممثّليها الطائفيين من البرجوازية ربطاً تبعياً تفقد فيه وجودها السياسي كقوّة مستقلّة، لتكتسب فيه، وبه، وجوداً آخر هو، بالضبط، وجودها الطائفي، أي وجودها كطوائف».
وما يقوله عامل عن الدولة اللبنانية - رغم النبرة الطبقوية الحادة والتي قد تبدو مبالَغاً فيها قياساً إلى واقع الحال الطبقي الشديد التشوش والغموض والاختلاط - يصح أيضاً وبدرجة كبيرة على الطائفية السياسية في الحالتين العراقية والسورية.
وصفة برنامجية تدميرية مسبقة في البلدين
إنَّ مختلف الإجراءات والقرارات التي اتخذها الجولاني/الشرع، قبل وبعد مدة تنصيبه من قبل أنصاره رئيساً للدولة، ليست مجرد سلسلة من القرارات الفوقية التجريبية التي اتخذتها قيادة جديدة عديمة الخبرة السياسية، وأسقطتها من عليائها على مجتمع مثقل بجراح الحرب الأهلية ومنهك بالقمع السلطوي لعدة عقود، بل هي وصفة مشروطة وجاهزة وكاملة جُرّبت في مصر والعراق وفي غيرهما من الدول - وخاصة ذات التجارب التي تدعي الاشتراكية - التي سقطت في السلّة الغربية.
فالجولاني لا ينطق عن الهوى حين يأمر ويصدر قرارات فوقية سيادية، وهو الذي لم ينتخبه أحد، وما يزال يحمل صفة رئيس مؤقت لمرحلة انتقالية، كقرار خصخصة القطاع العام في الاقتصاد السوري وبيعه بسعر التراب لمحاسيب النظام من محدثي النعمة. ففي العراق كان مصير القطاع العام، وهو أضخم منه في سوريا بمرات، أسوأ كثيراً، حيث تركت آلاف المصانع والمعامل والشركات لتصدأ وتهترئ معدّاتها وبنياتها وأقيم نموذجٌ فجٌّ للمجتمع الاستهلاكي على قاعدة اقتصاد ريعي تتحكّم دولة الاحتلال الأميركي في أموال وعائدات النفط العراقي التي يشترط أن تضخّ أوّلاً إلى البنك الفيدرالي الأميركي.
إنها وصفة متكاملة وليست قرارات مرتجلة لسياسيين هواة جاءت بهم المصادفة والمخابرات الدولية إلى الحكم. وصفة برنامجية تبدأ بالانتقال من مرحلة الحكم الانتقالي المؤقّت، بوثائقه ومدوّناته القانونية المؤقّتة وعدالته الانتقالية على النموذج الثأري الغربي حيث يبقى السجناء لسنوات عدة رغم قضائهم لمحكومياتهم وليس على النموذج الجنوب أفريقي «العدالة والمصالحة»، إلى مرحلة الحكم الاستبدادي وفقاً للانتخابات المُهَنْدَسَة مسبقاً، مروراً بخصخصة «نهب» الاقتصاد وبناء اقتصاد آخر كليبتوقراطي (لصقراطي) على النموذج اليلتسيني الروسي.
وصولاً إلى ذروة الخراب التي وصلها العراق اليوم، حيث نجد بلداً غنيّاً بالثروات النفطية والغازية والمعدنية، ولكنه ممنوع من التسلّح للدفاع عن نفسه، ومن مكافحة الفساد الذي نخر دولته. بلد ممنوع منذ ربع قرن حتى من ترميم بنيته التحتية الخدماتية وإصلاح شبكته ومولداته الكهربائية، والدفاع عن مصادر مياهه في أنهاره التأريخية الكبرى التي بدأت تنشف وتتلاشى.
أضفْ إلى ذلك إنهاك المجتمع وتصديعه بظواهر غريبة كانتشار المخدرات والدعارة وعصابات القتل وبيع البشر الأحياء والأعضاء البشرية وإدارة شبكاتها من قبل نافذين في الحكم، وتخبيل عقول الشباب بالأيديولوجيا والخرافات الطائفية المذهبية على حطام الهوية الوطنية العراقية، وتشجيع الحركات والنزعات الانتحارية العدمية. من هذه المجموعات مجموعة «القربان» (العلاهية)، والتي دفعت العشرات وربما المئات من المراهقين والشبان وخصوصاً في الجنوب إلى الانتحار - وتقديم أرواحهم قرباناً لمعبودهم علي بن أبي طالب حسب معتقداتهم المنحرفة - وكما تقول التقارير الصحافية المحلية القليلة التي نشرت والبيان المختزل لجهاز الأمن الوطني العراقي في أيار 2024 عن هذه الظاهرة!
مؤتمر النصر ودولة النصرة
جاء «مؤتمر النصر» الذي عقدته 18 ميليشيا سلفية مسلّحة تتقدّمها الجهة الداعية «هيئة تحرير الشام» («جبهة النصرة» سابقاً) بقيادة أبي محمد الجولاني والذي صار لاحقاً وبقرار من هذا المؤتمر الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، جاء هذا المؤتمر ليضع المداميك الأساسية لدولة «سوريا الجديدة» كما تراها لها «الهيئة» وقبلها «النصرة».
وقد اتخذ هذا المؤتمر قرارات عدة من أهمّها: حلّ التنظيمات السياسية المدنية وإدماجها في الدولة. وحلّ حزب النظام الاستبدادي السابق (حزب البعث) وأحزاب الجبهة الوطنية المتحالفة معه، ومنعها حتى من إعادة تشكيل نفسها مجدداً. وتفويض الرئيس المُعيّن أحمد الشرع تشكيل مجلس تشريعي مؤقّت للمرحلة الانتقالية.
وحلّ الجيش السوري وتأسيس «جيش وطني جديد» وفقاً لوصفة المنتصرين في الصراع مع النظام السابق طبعاً، وبدمج الميليشيات السلفية وقادتها فيه. وقد صدرت بالفعل قرارات ترقية وتنصيب لعدد من جنرالات هذا الجيش بعضهم من مقاتلي الفصائل السلفية المنشقين على النظام السابق ومن السلفيين الجهاديين الأجانب من مجتمعات ودول آسيوية وخصوصاً من أفغانستان والشيشان والباكستان والإيغور الصينيين ممثلين بالحزب الإسلامي التركستاني الإيغوري والذي يحمل السلاح ضد النظام الشيوعي الصيني ويعمل لإقامة جمهورية إسلامية في إقليم شينجيانغ، شمال غرب الصين. ويبدو أنَّ المخابرات التركية هي من جاءت بهؤلاء المسلحين وزرعتهم في الشمال السوري.
كما احتفظ ضباط من مليشيا الرئيس (هيئة تحرير الشام)، ومن خواصه بالنواة الصلبة لقيادة الجيش. فبموجب المرسوم الذي وقّعه الشرع وضمَّ قائمة بـ 49 اسماً تمّت ترقية وتعيين اثنين من المقرّبين للرئيس إلى رتبة لواء، كما تمّت ترقية خمسة آخرين منهم إلى رتبة عميد، والبقية إلى رتبة عقيد.
ومما له دلالة خاصة أن تنظيم «القاعدة» في سوريا الذي يحمل اسم «حراس الدين»، أعلن عن حلِّ نفسه بقرار أميري بتاريخ 28 كانون الثاني أي قبل مؤتمر النصر بيوم واحد!
فهل وجد تنظيم «القاعدة» أنّ الحاجة لم تعد قائمة لوجوده وجهاده، وأنّ الدين لم يعد بحاجة إلى حراسته بعد أن قامت «دولة الإسلام» الجديدة الشرعية المنتصرة، أم أنه أراد أن يرسل رسالة تصالحية ضمنية إلى من يهمه الأمر مفادها أن تنظيم «الدولة» (داعش) شيء وتنظيم «القاعدة» شيء آخر وفي خندق آخر؟
أختم بالقول المتفائل إنَّ لدى الحركة الوطنية الديموقراطية واليسارية السورية، ورغم ما حلَّ بالجزء الذي اختط المعارضة والدفاع عن الشعب من اضطهاد ومحاصرة على يدي النظام الاستبدادي طوال عقود عدة وتشتتها الحالي، لديها من الخبرة والتجارب الخصبة والكفاحية العالية ما يجعلها أقرب إلى النجاح في صياغة برامجها المدافعة بحق وبعلمية وبسالة عن وحدة الوطن والمجتمع بغالبيته الكادحة المنتجة والمفقَرَة والتي هي ضحية الطائفيين والعرقيين بل وحتى الليبراليين القشريين الذين وضعوا أنفسهم في خدمة الأجندات الإمبريالية الصريحة والتي لا تريد أن تقوم لنا قائمة إلا كأسواق استهلاكية تعج بالمولات والقواعد العسكرية الأجنبية ومنابع للطاقة والمواد الخام الرخيصة.
* كاتب عراقي