لا كهرباء، لا تدفئة، وضجر ثقيل. لدي ساعة إلا أربع دقائق قبل أن تفرغ بطارية كمبيوتري المحمول من الشحن. حمّى شحن البطارية ما قبل موعد تقنين الكهرباء تتفوّق على ما عداها، خشية الظلام التام. سألجأ إلى «فقه اللغة» للثعالبي، ومعاجم مختلفة لمعرفة معنى كلمة «تقنين». لن أغوص عميقاً في تفسير هذه الكلمة اللعينة، سأكتفي بمعنى بليغٍ واحد «التقنين: أدنى كمية من القوت».
هذا ما نعيشه حقاً في هذه البلاد المنكوبة منذ سنوات. القوت هنا لا يتعلّق بالطعام فقط، إنما بالقوت الروحي، وكيفية تلاشي سلوكيات آدميّة لمصلحة قيم وحشية طارئة، أفرزت بشراً على هيئة حيتان. بقارب نجاة مثقوب تحاول الوصول إلى الضفة الأخرى غير عابئ بالآخرين، حتى لو كان النهر الذي تحاول عبوره هو مجرد مستنقع يعج بالحشرات. هناك ملاريا روحية غير مرئية تفتك بالعقول والأرواح. أن تنجو بنفسك وتخرج منتصراً بأسطوانة غاز، أو عبوة ماء، أو مقعد في حافلة مزدحمة. تقنين في العيش، وهدر في عدد القتلى والثكالى والمهجّرين. لدينا فائض في الكراهية ونحن نحكي عن الحب. تقنين في المعلومات الصحيحة وجرعات زائدة من الأكاذيب. تقنين في الأعضاء البشرية، كأن ترى رجلاً بساق اصطناعية، أو بيدٍ مبتورة. أما القلب البشري، فلا معلومات مؤكدة عن وجوده بين الأضلاع، ربما كان صاحبه قاتلاً محترفاً، أو مغتصباً، أو لصّاً تصادفه بكامل أناقته في مقهى أو على رصيف، أو على شاشة، لكنك لا تعلم حجم جرائمه. ربما كان ضحية أيضاً، أو شخصاً وحيداً فقد كامل عائلته في حملة تقنين عشوائية. على سكة أخرى، سنكتشف تقنيناً من طرازٍ آخر، يتعلّق هذه المرّة بالكتابة نفسها، فنحن إزاء طابور من الكتّاب، وشحٍّ في القرّاء. أمة كاملة تكتب ولا تقرأ. الحائط الأزرق في موقع الفيسبوك أباح لكل العابرين أن يتحولوا إلى كتّاب بالجملة والمفرّق. لكلٍ سطل دهانه وفرشاته وسلّمه من دمغة «أعجبني»، يملأ حائطه بما يشاء من كتابات وشذرات وحكم وأمثال، وما أن تتسع دائرة صداقاته الافتراضية وعدد معجبيه، فإنه يستعير ريش طاووس، متوجاً نفسه كاتباً لا يشق له غبار. هكذا ابتلى الشعر على وجه الخصوص بآلاف الشاعرات والشعراء الافتراضيين، وما أن ازدحمت الساحة بهؤلاء حتى ظهر نقّاد يطالبون بشرعية الفسابكة في قبيلة الشعراء، ويدعون إلى مهرجانات لشعراء الفيسبوك، على غرار ظاهرة «شعراء الهايكو» كآخر دمغة لانحطاط ديوان العرب. ليس مهماً بالطبع، أن يلتفت هؤلاء إلى الركاكة في مفاصل سطورهم الهزيلة. ليذهب فقهاء اللغة إلى الجحيم، وليذهب شعراء المعلّقات وما تلاهم إلى مخازن الخردة. أعرف شعراء فيسبوكيين أكثر شهرة في محيطهم من شعراء كبار (!). أما القرّاء فبات علينا أن نفتّش عنهم بمصباح ديوجين، كأن المناهج المدرسية، وغياب تقليد المكتبة في معظم البيوت، باحتضار الطبقة الوسطى، أطاحا فكرة ضرورة القراءة نفسها، واقتلاعها من الجذور لمصلحة ثقافة التسلية. تكفي شاشة الهاتف المحمول لاستعراض مواقع التواصل وطرائف الأصدقاء بوصفها حصة القراءة الوحيدة المرغوبة والمتاحة. ستخرج من هذا الطابور حفنة من القرّاء نحو الكتب الالكترونية المتاحة مجاناً، أو نحو الروايات الرائجة بتأثير إعلام الجوائز، وإذا بعشرات الروايات التي لم تطأ جنّة الجوائز تُلفظ خارجاً. هناك إذاً، تقنين في القراءة، وهدر في الكتابة، او ما يمكن أن نسميه «أدنى قدر من القوت المعرفي».
كان إيتالو كالفينو في وصاياه الست للألفية الثالثة، أكدَ على ضرورة الكثافة والاختزال والدّقة، وبمعنى آخر «التقنين» في عملية الكتابة، لكن معظم كتّاب اليوم تجاهلوا هذه الوصايا، متكئين على الإنشاء وهدر المشاعر والوصف السقيم، كأن قيمة الكتاب بعدد صفحاته، أو بوزنه الثقيل، أو بثرثرة مؤلفه.
ورغم مساوئ التقنين في العيش، إلا أن للتقنين في الإبداع مزايا مضادة، ففي الرسائل المتبادلة بين الكاتبين الروسيين أنطون تشيخوف ومكسيم غوركي نقع على نصائح نفيسة كتبها الأول للثاني، إذ يقول تشيخوف مخاطباً غوركي «عندما تقرأ مسودات الطبع احذف ما أمكنك ذلك، النعوت والظروف. إنها كثيرة عندك حتى ليضل فيها انتباه القارئ ويتولاه التعب منها. إن المرء يفهمني عندما أقول: «جلس الرجل على العشب». إنه يفهم ذلك لأنه جلي واضح ولأنه لا يعيق الانتباه. وخلافاً لهذا، فإني أغدو غامضاً وأرهق القارئ إذا ما صرخت: «على العشب الاخضر الذي وطأته الاقدام، جلس رجل كبير، ضيّق الصدر، ذو قامة معتدلة، ولحية حمراء، جلس دون جلبة ملقيا على من حوله نظرات فيها الحياد والخوف». إنّ هذا لا ينطبع في الذهن دفعة واحدة، والأدب يجب أن يرتسم فيه دفعة واحدة وفي ثانية من الزمن». وفي رسالة ثانية، يكتب تشيخوف تعليقاً على قصة كتبها غوركي، تتعلّق بوصف سقوط المطر «لمَ تأخذ كل هذا الوقت في وصف كيفية حدوث المطر، كل الناس يا عزيزي تعرف كيف تمطر السماء. وكان عليك أن تكتفي بالقول «لقد امطرت السماء»، وهذا يكفي». وسيجيبه غوركي بعد قراءة إحدى قصصه «لن يستطيع أحد أن يكتب في مثل هذه البساطة عن أشياء بسيطة كهذه وأن يحسنها كما تحسنها أنت، وأن كل شيء بعد أية قصة من قصصك مهما قلّت أهميتها، يبدو فجاً كأنما كُتب بهراوة لا بقلم».
من جهته، كان جدّنا النفّري قد أودعنا عبارته الحاسمة «كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة»، لكننا لفرط استعمالها من دون دراية، أو تقنين، نسينا مقصده، وإذا بالرؤيا تضيق، والعبارة تتسع، إلى درجة البدانة. بدانة إنشائية تشكو من ارتفاع نسبة الكولسترول، وفائض الدهون التي تسيل على الهوامش، لتغرق القارئ بحبرٍ مغشوش، قبل أن تصيبه بارتفاع ضغط الدم، وضيق في الشرايين. لعله زمن التصحّر، حين بلا ألم أو ندم، تُقطع مئات الأشجار لاستعمالها كحطب لمواقد التدفئة، وقبل ذلك لتحويلها إلى ورق للكتابة التي- في معظمها- لا تنفع للخل ولا للخردل. أكتب مراقباً مستوى شحن البطارية في كمبيوتري المحمول، متدثراً بثيابٍ ثقيلة، وفزع من حياة تحتضر مثل بطارية مُستَهلَكة.
تقنين بكل أصناف القوت، وهدر بالأرواح!