لم تعد مسألة عدد كبير من وسائل الإعلام الغربية تتعلّق فقط بالنفاق والمعايير المزدوجة، إذ إنّها بنفسها لم تعد تكترث لصورتها وانتقلت إلى مرحلة التخلّي عن شعارات «الموضوعية» و«حرية التعبير» التي دائماً ما تشدّقت بها، والمجاهرة بتجنيد إمكاناتها في خدمة آلة حرب المعلومات الصهيونية. وفي كلّ محطّة مهمّة منذ «طوفان الأقصى»، تقترب هذه المؤسّسات الإعلامية من استحالتها أبواقاً لرأي واحد في عالم يتّجه نحو القطبية. فرغم أنّ الإعلام الأميركي لم يكن متحرّراً من قبضة الدولة العميقة يوماً إلّا باستثناءات معدودة، إلّا أنّه كان يحرص على ترصيع ادّعائه بالاستماع إلى الرأي والرأي الآخر، ما سمح بظهور آراء معارضة للإمبراطورية بين الحين والآخر. هذا الزمن ولّى إلى غير رجعة، وخصوصاً مع شعور النخب ذات الهوى الصهيوني بالتهديد، وآخر تجلّياته التظاهرات الطلابية التي تعصف بجامعة «كولومبيا» منذ أكثر من أسبوع وجامعات أخرى انضمّت إليها.

«كولومبيا» لم تعرّ فقط زيف الديموقراطية وحرّية التعبير في الولايات المتّحدة، بعدما اتُّخذ القرار بقمع التظاهرات ووصل الأمر حدّ تهديد إدارتها المتظاهرين باستدعاء «الحرس الوطني» لكمّ أفواههم، بل عرّت أيضاً وسائل إعلام محافظة وحتّى ليبرالية كشّرت عن أنيابها الصهيونية، وراحت تبثّ روايات كاذبة تذكّر بتلك التي بثّها الاحتلال الصهيوني لتبرير اجتياحه الهمجي لقطاع غزّة، مثل قطع المقاومة الفلسطينية رؤوس 40 طفلاً واغتصابها النساء، وغيرهما من أكاذيب تبيّن زيفها مع الوقت بتراجع مطلقيها عنها أو افتضاح وقوف منظّمات صهيونية وراءها تهدف إلى خدمة العدوّ ببثّ الدعاية المؤيّدة له في الإعلام الغربي. الحجّة المعلنة تكون دائماً «معاداة السامية»، وهي الشمّاعة التي يستخدمها الصهاينة وكيانهم المحتلّ للعب دور الضحيّة وتبرير ارتكاب مجازر وإبادة جماعية. هكذا، راحت وسائل إعلام أميركية، غالبيّتها من الصحف، تشارك في تخوين المتظاهرين في «كولومبيا» وحتّى الجامعات الأخرى، عبر الإيحاء بأنّهم «معادون للسامية» و«يدعمون الإرهاب»، ووصل الأمر حدّ النقل زوراً عن ألسنتهم ونسج أقاصيص خيالية حول تعرّض يهود للمضايقات والاعتداء من المتظاهرين، علماً أنّ إحدى أهمّ المجموعات الداعمة والمشاركة في التظاهرات هي «أصوات يهودية من أجل السلام»!
الأكثر إبداعاً بين هذه الوسائل الإعلامية كانت صحيفة «نيويورك بوست» المحافظة التي تمعن منذ أيّام في مهاجمة التحرّكات الطلّابية بكلّ ما أوتيت من قوّة تزويرية سفسطائية. وغطّت الصحيفة غلاف عددها ليوم الأربعاء بعنوان «كولومبيا تستسلم»، واصفةً المتظاهرين بأنّهم «مؤيّدو الإرهاب». وكانت في اليوم الذي سبق، قد وضعت صورة رئيسة الجامعة على غلافها معنونةً أنّ «معاداة السامية في حرم الجامعة باتت خارج السيطرة». وقبل ذلك، نشرت تقريراً الأحد الماضي ادّعت فيه أنّ «طالبة يهوديّة في جامعة «يال» تعرّضت للطعن في عينها بواسطة علم فلسطيني». مصدر هذا الخبر الكاذب ادّعاءات الطالبة الصهيونية سحر ترتك التي ترأس تحرير «يال فري برس» وتكتب في «وول ستريت جورنال»، بحيث أقامت حملة تلعب فيها دور الضحيّة، وتزعم تعرّضها للطعن في عينها، ناشرةً صورةً لعينها نفسها التي تبدو بخير لكنّها محمرّة قليلاً، كما لو أنّها حكّتها بنفسها ونشرت الصورة! وكانت الطالبة محطّ سخرية واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي، بحيث لم يصدّقها كثيرون، ولا سيّما أنّها ادّعت أنّ المتظاهرين حموا المعتدي المفترَض، في وقت كانت تنتشر فيه مقاطع لطلّاب يهود يسيرون بين الفلسطينيّين من دون أن يتعرّض لهم أحد، إضافة إلى أخرى يظهر فيها صهاينة يقفون في الشارع مع شعارات مؤيّدة لـ«إسرائيل»، من دون أن يقترب أحد منهم أيضاً. هذه البارانويا هي إحدى الأسباب التي مهّدت لاتّهام الرئيس الأميركي جو بايدن التظاهرات بأنّها «معادية للسامية»، تماماً كما كان الوضع مع الاتّهامات التي لاحقت المقاومة الفلسطينية.
تخوين الطلّاب المتظاهرين عبر الإيحاء بأنّهم «معادون للسامية» و«يدعمون الإرهاب»


وبالحديث عن «وول ستريت جورنال» اليمينية، نشرت هي الأخرى مقالاً في قسم «الرأي» تحت عنوان «من يقف وراء التظاهرات المعادية لإسرائيل»، مدّعيةً أنّ ««حماس» و«حزب الله» والحوثيّين وغيرهم يهيّئون الناشطين في الولايات المتّحدة وفي أنحاء الغرب». وأكمل كاتب المقال ستيفن ستالنسكي، وهو المدير التنفيذي لـ«معهد بحوث إعلام الشرق الأوسط» الذي أسّسه ضابط الاستخبارات الإسرائيلي السابق إيغال كامرون والمحلّل السياسي الإسرائيلي الأميركي ميراف ورمسر، أنّه «في جامعة كولومبيا، هتف المتظاهرون دعماً للمنظّمات الإرهابية وأحرقوا العلم الأميركي ولوّحوا براية حزب الله. دعوا كتائب القسّام التابعة لحماس إلى الهجوم مرّة أخرى، وسخروا من الطلّاب اليهود قائلين: «لا تنسوا أبداً السابع من أكتوبر»، و«هذا سيحدث... 10 آلاف مرّة أخرى!»». كلّ هذا استنتجه الكاتب لمجرّد أنّه رأى صورة من إحدى التظاهرات رُفع فيها علم «حزب الله»، فيما يرفض في باطنه الاعتراف أنّ هناك للحزب شعبية ما حتّى في الولايات المتّحدة لاعتباره واحداً من حركات المقاومة ضدّ «إسرائيل»! ويعكس «هوس» ستالنسكي مستوى الانزعاج لدى النخب الأميركية والصهيونية من كون التظاهرات المؤيّدة لفلسطين تحصل في داخل «عرينهم» الأكاديمي.
ليس مهمّاً ما يقوله هؤلاء. المهمّ تبيان أنّ هذا الإعلام لم يعد فضاءً لحرّية التعبير كما كان يدّعي، بل أصبح طرفاً في الحرب. لماذا؟ لأنّ هذا الاندفاع للهجوم على التظاهرات، يعني أنّها أثّرت في وجدانه وباتت تؤرّقه وتؤرّق الدولة العميقة وكيان الاحتلال إلى درجة لم يعودوا قادرين على ربط زنودهم. والأهمّ من ذلك، يسجّل التاريخ أنّ هناك دولةً بوليسيّةً بكلّ ما للكلمة من معنى، ادّعت الديموقراطية فيما هي حقيقة ديكتاتورية، قمعت تظاهرات لمجرّد أن طالبتها بوقف تمويل احتلال استعماري يرتكب إبادة جماعية بحقّ أبرياء! في عالمنا المقلوب رأساً على عقب، يُعتقل ويخوّن طلّاب يريدون لناس ألّا يُقتلوا، فيما القاتل والقامع يصوَّران إعلاميّاً على أنّهما الضحيّة.