منذ انطلاق ملحمة «طوفان الأقصى» في 7 تشرين الأول 2023، شهدت قضية فلسطين، في برهة من الزمان، تحولات فارقة لم تشهدها في عقود مديدة من تاريخ الصراع العربي - الصهيوني، والكفاح الفلسطيني للتحرر الوطني، والإهانة البالغة والمظلومية التاريخية التي لحقت بالأمة وفلسطين منذ الحرب العالمية الأولى.لا تقتصر هذه التحولات على ما يشهده العالم من صحوة ضمير كبرى تناصر قضية فلسطين والحق الفلسطيني ورواية النكبة الفلسطينية، وشملت الجنوب العالمي ومراكز «المتروبوليتان» الغربي في واشنطن ونيويورك ولندن وباريس وبروكسل وبرلين ومدريد، بل ومدناً صغيرة في مختلف أصقاع الغرب. وهذا يطرح بقوة أسوأ كوابيس الصهاينة وهو ترذيل إسرائيل ونزع الشرعية عنها، وخاصة لدى الأجيال الجديدة.
يتصدّر هذه الحراكات والتظاهرات شباب وشابات في الغرب نشأوا في عائلات صهيونية راسخة، يهودية وغير يهودية، لكنهم تمرّدوا على السردية الصهيونية لصالح سردية فلسطين. لا بل امتدت ثورة الوعي الجديد نحو التعرف إلى الإسلام، ودراسة القرآن الكريم، والبحث فيه عن قصة الإنسان وإجابات أسئلة الوجود الكبرى، وتَمثُّل ما فيه من قيم ومبادئ الحق ومعايير العدل، والتماهي مع عدالة قضية فلسطين ونبذ الإسلاموفوبيا والعنصرية والتوجهات العدوانية الإمبريالية تجاه العرب والمسلمين والجنوب العالمي، الأمر الذي تنبئ به المئات أو الآلاف من مقاطع الفيديو ومنشورات منصة «X» وفيسبوك وغيرها.
ولا مبالغة في القول إن هذه الحراكات والتظاهرات والنشاطات تؤسس لموجة تحرر سياسي وتغيير اجتماعي واقتصادي، يتصدى للرجعية واحتكار الثروة والسلطة والفساد السياسي والظلم الاجتماعي والانحطاط الأخلاقي، نحو آفاق العدل والتراحم والإنسانية، ويغيّر وجه الغرب الاستعماري المهيمن منذ 5 قرون. ذلك أن هذه الحراكات لم تقتصر على استنكار الإبادة والدمار والتجويع والمطالبة بوقف إطلاق النار لإنقاذ أرواح المدنيين، لا بل تجاوزتها، شأنها شأن أكذوبة «حل الدولتين» بكل سماجتها وسفاهتها، إلى المطالبة الصريحة بـ«فلسطين حرة من النهر إلى البحر»، علماً أن بعض المعارضين جذرياً لإسرائيل والمشروع الصهيوني في الغرب يتوزعون بين جيل الناجين من المحرقة النازية وجيل أحفادهم، بعد أن خلصوا إلى أن الصهيونية حركة عنصرية توسعية.
والجدير ذكره، هنا، أن «طوفان الأقصى» جاءت في لحظة إفلاس قيمي واختزال معرفي وتجريف أخلاقي هائل يشهدها العالم للوعي الإنساني والمثل العليا، على يد الثقافة الإمبريالية الرأسمالية الفاشية ومنظومتها المعرفية المادية، بينما كانت البشرية تعاني فراغاً روحياً وأخلاقياً وتتطلع إلى استعادة القيم النبيلة والمثل العليا وتبحث عن قضية حق وعدل وضمير حر لتتبناها وتتماهى معها وتناضل من أجلها، بل وتبحث عن إجابات عن أسئلة الوجود الإنساني الكبرى: من نحن؟ ومن أين جئنا؟ ولماذا جئنا؟ وإلى أين المصير؟ والواقع أنه لم تكن هناك قضية يتجلى فيها الحق أبلجَ والباطل صريحاً، بلا قناع كما في قضية فلسطين التي تنطوي على أبشع ما في العالم من ظلم، وعدوان وأنبل ما فيه من حق ونضال وتحرر من ربقة الاحتلال والاستيطان.

العنقاء تنهض من الرماد
أكثر ما لفت شعوب العالم، الغربية خاصة، إلى عدالة قضية فلسطين، هو حالة الصمود الأسطوري والثبات على الأرض والاستعصاء على الانهيار والتماسك الاجتماعي والتضامن الصلب بين مختلف شرائح المجتمع، لدى أهالي قطاع غزة. عند كل مجزرة من مجازر الاحتلال الهمجي، يسارع أفراد الدفاع المدني والشباب والرجال بأكفّهم العارية إلى رفع الأنقاض لاستنقاذ الأحياء الناجين من المجازر وانتشال الشهداء والجرحى ونقلهم إلى المشافي بما تيسر من وسائل النقل، فيما قدّمت أطقم الإسعاف عشرات الشهداء الذين قصف الاحتلال مركباتهم، وهم يستجيبون لنداءات الاستغاثة ويسارعون إلى مواقع الغارات والقصف الهمجي لإنقاذ الجرحى. وفي كل مرة، ينهض الناجون الخارجون من تحت أنقاض المجازر، ممّن لا يزال الشهداء من أهلهم تحت الأنقاض، ليجدّدوا إيمانهم وعهدهم مع الله سبحانه وتعالى، ويحمدوه ويفوّضوا أمرهم إليه، ويحتسبوا كل ذلك عنده رغم فقد الأهل وخراب الديار والدمار الشامل، ويؤكدوا وقوفهم خلف المقاومة ومجاهديها ورفض التهجير والترانسفير!
لولا تضحيات الأمم وصبرها وإصرارها، لَما تحرر وطن ولَما أشرق العدل والإحسان في التجربة الإنسانية


من مشاهد هذه المجازر، اقتبس أطفال غزة لعبة تمثيل جديدة: انتشال الشهداء وإنقاذ الجرحى من تحت الركام والأنقاض، ثم يحملون أحدهم، الذي يقوم بدور الشهيد على نعش رمزي، ليفاجئهم بعد خطوات بصرخته وقيامته من الموت، وجلوسه على النعش، لتكون تلك خاتمة اللعبة! وكأنما طائر العنقاء الفلسطيني يولد مرة أخرى وينهض من رماد المحرقة الصهيونية بعد كل مجزرة من ثلاثة آلاف مجزرة ارتكبها الاحتلال الهمجي منذ 8 تشرين الأول 2023. لقد فاقت مجازر الصهيونية المحرقة النازية في وحشيتها وحقارتها وانعدام مبرراتها وأكاذيبها. مجازر لا توقع آلافاً من الشهداء والجرحى أطفالاً ونساء وشيوخاً فحسب، بل عشرات الآلاف، وإذا استمر العدوان الهمجي بالوتيرة نفسها، فالتوقعات تشير إلى مئات الآلاف في إقليم لا يتجاوز سكانه 2.3 مليون نسمة. لقد اضطر أكثر الأهالي إلى النزوح مرات عن منازلهم التي دمّرها الاحتلال وجعلها أكواماً من الأنقاض والرماد، أو لأن منازلهم تقع تحت طائلة التفخيخ والتفجير وأحزمة النار ونسف المربعات السكنية وتجريف الجرافات العسكرية وتحويلها إلى تلال من الخراب والدمار، وتدنيس المقابر وتجريفها وانتهاك حرمات الموتى التي لا ينتهكها إلا أنذل الأنذال ولم يسبق إليها أحد في الحروب غير الكيان الصهيوني الاستيطاني الهمجي.

التحدي والاستجابة
ورغم كل ما سبق، وفي سياق الاستجابة لتحديات الإبادة والفناء وتجاوزها، عندما تلوح أي فرصة، نجد النازحين يعودون إلى أحيائهم ومنازلهم متخذين من خراباتها وحجارها وأسقفها المنهارة مأوى، غير مبالين بأحزمة النار وخطوط الإعدام التي لا يسلم مارّ بها من القتل وقناصة أنذال يستهدفون أناساً عُزَّلاً من السلاح. وقبل كل هذا وبعده، يتجدد عهد الثبات ورفض التهجير والتشبث بالأرض التي استحقت منهم الأرواح والدماء والدموع والتضحيات، ولا أقول الضحايا، لأن التضحيات فعل عزيمة وإرادة متسلحة بإيمان راسخ ووعي تاريخي عميق الجذور وجذوة أمل لا تخبو.
في ظل التحديات المصيرية الكبرى، تتمايز الحضارات في قدرتها على الاستجابة للتحديات والتجاوز وصد العدوان وبذل التضحيات، كما يظهر جوهر الأمم وصلابة معادنها وقدرتها على المقاومة والانتصار. في هذا السياق، يهتم المؤرخون وعلماء الاجتماع بدراسة عوامل الصمود والمقاومة الذاتية والموضوعية والبنيوية لدى الأمم والحضارات واكتشاف مقوّمات وخبرات «ثقافة المقاومة»، إذ تمثل هذه الملحمة الإنسانية الفريدة أسمى درجات التجلي والنبل والسمو في حضارة هذه الأمة الخالدة وعصورها وتواريخها الممتدة. عندما تتعرض الأمة للعدوان، وتمر بمنعطفات وتحديات مصيرية، فإنها تستمد قدرتها من إيمان راسخ ومخزون حضاري بالغ الثراء وخبرات مواجهة وانتصار متعددة ومتنوعة. فهي أمة تاريخها متصل لآلاف السنين بلا انقطاع منذ بدء استخلاف الإنسان في الأرض، ولها امتدادات ثقافية وإنسانية عميقة ومتسعة أفقياً ورأسياً، وقدرات مشهودة على التواصل والتجدد.

ثقافة المقاومة
هي إذاً الأمة التي أثرت التراث الإنساني روحياً ومادياً ومعرفياً، وقدّمت للعالم الإيمان والتوحيد والأبجدية والأنسنة والعلوم والتجارة والتواصل بين الأمم، عندما كانت البشرية في دياجير الظلام. هي أمة التوحيد الباقية الخالدة بخلود وحي السماء، وتجربتها التاريخية الطويلة الممتدة مكّنتها عبر مراحل وابتلاءات عديدة من تجاوز الفزع والاستعصاء على الإبادة، وأتاحت لها تحقيق الصمود والانتصار والبقاء.
لفتت وألهمت هذه التجربة الفذّة في غزة أنظار وقلوب وضمائر البشر في كلّ أرجاء العالم. فما سر هذه الثقافة التي مكّنت مستضعفين فقراء محاصرين في شريط ضيق من الأرض من الوقوف بوجه أعتى حملات وآلات العنف والتدمير والاستئصال المعاصرة؟!
لقد برهنت ثقافة المقاومة أنها المكافئ الموضوعي الفاعل بوجه أعتى مشروعات الاستكبار والاستيطان والإبادة العالمية؛ وأنه لا خلاص للعالم والبشرية من شرور منظومة عالمية عاثت في الأرض فساداً وأهلكت الحرث والنسل ومارست أقبح الإبادة إلا بتبني ثقافة المقاومة حياة ونهجاً. ثقافة المقاومة تبدأ من فكرة الإيمان، الإيمان بالحق والقسط اللذيْن قامت بهما السماوات والأرض، وبأن الظلم منبتٌ لا يدوم، وأن الخالق أنزل العدل وأقامه منظومة كونية شاملة.
إنها مسيرة الحق عبر التاريخ الإنساني ورحلة الدم الذي هزم السيف. فالعبرة في مآلات الأمور ومستقبل الشعوب ومصائر الأوطان. ولولا تضحيات الأمم وصبرها وإصرارها، لَما تحرر وطن ولَما أضاءت الخبرة البشرية ولَما أشرق العدل والإحسان في التجربة الإنسانية.

* باحث في التاريخ والاجتماع