اخترتُ هذه الأرض كي أتجسّد إنساناً...واخترتُ نهر الأردن كي أتعمّد بمائه...
واخترتُ الزيتونة كيّ أصلّي تحت أغصانها وفوق جذورها...
اخترتُ أن أتكلّم الآرامية... لغة الشعب المحبّ للإنسانية...
واخترت وأنا إنسانٌ مصلوبٌ أن تكون كلماتي الأخيرة مناجياً ايل...
اخترتُ عصارة الكرمة التي عاشت على حبّ الأرض والمطر وشفاعة البعل كي أملأ بها
جرار العرس في قانا...

أسامة دياب ـــ «بييتا الجديدة»


واخترت تلاميذي من هذه الأرض واخترت دور كلّ واحد منهم...
والتلميذة الثالثة عشرة التي لم يعترفوا بها رسمياً، اخترتها امرأةً رجمت بمحبتها وصدقها فكرة القصاص وزرعت بتجربتها فكرة المغفرة...
جئتُ إلى هذه الأرض المقدّسة التي أَسمَتْ إحدى مدنها باسم السلام...
جئت إلى أرض قبل أن أتجسّد فيها إنساناً كان أهلها قد عرفوا معنى الفداء وتمرسوا به... وعرفوا معنى التضحية وتمرسوا بها...
جئت إلى أرض احترم فيها أهلها الطبيعة فقدّسوا دورة حياتها...
جئت إلى أرض فيها المغاور تحتضن الثوّار فاخترت أن أبدأ ثورتي من اللحظات الأولى في
تلك المغارة...
اخترت أمي... واخترت يوسفَ أن يكون أباً لطفولتي وأن يكون الرجل الذي آمن وصدّق وقبل المهمّة...
تجسّدت إنساناً على هذه الأرض لأتوّج ما كان في هذه الحضارة من قيم وأقتلع ما قام بتشويهه
المارقون أعداء الإنسانية...
جئت إلى هذه الأرض حيث عرفوا الزراعة والتجارة والإبحار والفنون والأدب والشعر
والحساب والفلك والموسيقى وعرفوا الإبداع والاكتشاف وتشاركوا معرفتهم مع العالم أجمع...
فهل من مكان أجمل من هنا أن أختاره كي تنطلق رسالتي إلى كلّ بقعة من هذا الكوكب لتزرع فيها المحبّة؟
بعضهم يريدون أن تكون طبيعتي فقط إلهية...
بعضهم يريدون أن تكون طبيعتي ثالوثاً من الأب والابن والروح القدس...
بعضهم يعتقدون أنني لم أُصلب ولم أُبعث حيّاً من جديد...
وبعضهم يرى أنّي لست إلهاً ولا ثالوثاً مقدّساً بل يعترف بي رسولاً...
وبعضهم من يعتقد أنّي لم آتِ أصلاً...
أنا أقبل أن يتصوّروني كما يريدون ولكن ما يهمني هو أن يفتحوا قلوبهم وعقولهم لهذه القيم التي ناديتُ بها وأن يعملوا لها...
أتأمل ما يجري هذه الأيام في موطني فلسطين، فيعيد إليّ لحظات التعذيب والصلب عندما اخترتُ أن أتجسّد إنساناً...
منذ أن أتى الجلّادون مجدّداً إلى موطني، وأنا أرافق أرواح الأطفال إثر مجزرة تلو أخرى...
بعد ألفي عامٍ ونيّف لم تصل إلى سلالة الجلّادين بعضٌ من كلماتي…
وبعد ألفي عامٍ ونيّف ما زالوا أعداء الإنسانية...
وما زال الشهداء في موطني يناجون إلهي كلٌّ على صليبه... كما ناجيته على صليبي...
لقد كانت روما القوّة العظمى يوم صلبني أعداء الإنسانية وبرّأت نفسها من دمي... ثم جاء يومٌ غابت عن إمبراطوريتها الشمس وبقي نور تعاليمي ساطعاً...
واليوم أميركانيا وأذنابها يبرّئون أنفسهم من دم أطفال غزّة الذين يُذبحون على أيدي أعداء الإنسانية أنفسهم، وقريباً سيأتي اليوم الذي ستغيب عن إمبراطورية «الهمجّية» قوّتها الوهمية
وستبقى فلسطين، موطني منارة المحبّة والسلام للعالم أجمع.

* لبنان