يعيش الفلسطينيون اليوم في فترة حساسة جداً، برز فيها العامل النفسي بشكل واضح نتيجة الصدمات المباشرة التي نتعرض لها كفلسطينيين مشاهدين للإبادة، وليس واقعين بشكل مباشر تحت سطوة النار كما يحدث مع فلسطينيي قطاع غزة. البداية؛ نريد إضاءة حول العلاقة بين ما يحدثه الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي من انتهاكات ومجازر، والواقع النفسي للمُستعمَر من ناحية سيكولوجية؟ـــ صدمة الفلسطينيين لا يمكن فهمها كصدمة شخصية؛ بل هي صدمة تاريخية تحدث بسبب سيطرة شعب على شعب، وهذا الجانب الاستعماري منها، وأيضاً هي صدمة جمعية عابرة للأجيال وصدمة تراكمية، بمعنى أنه كلما مرّ الزمن، كلما ازدادت الآلام النفسية الخاصة بالفلسطينيين، بالتالي يجب النظر إلى صدمة الفلسطينيين وتبعاتها النفسية من منطلق نظرية الصدمة التاريخية. هذا يعني أولاً الكثير من الأفراد المُتأثرين بالعنف المباشر الذي يختبرونه إما كأشخاص فاقدين لأحبابهم وأبنائهم، أو معتقلين في سجون الاحتلال وتعرضوا للتعذيب، أو أشخاص تعرض أهاليهم وأطفالهم للتعذيب والاعتقال. الأشخاص الذين هُدمت بيوتهم، فقدوا أطرافهم ويعيشون جراحاً دائمة طوال حياتهم بسبب الإصابات، هذا يفسر كيفية إصابة الأفراد. ومن ناحية ثانية؛ عندما يبقى شعب كامل واقع تحت الاحتلال، فهذا يؤدي إلى خلل في العلاقات بين الأشخاص. يصبح هناك قلة ثقة، تنافس على الفُتات، واستدخال للشعور بالدونية بمعنى أن الأشخاص الذين يعملون لدى الإسرائيليين، يعتقدون أنهم الأكثر حظاً، أو الذي يعتقد مثلاً أن هناك ثقة بالصحافي الإسرائيلي أكثر من الصحافي الفلسطيني. وهناك نؤكد أنه بلا شك الصدمات الاستعمارية والتاريخية تولد الشعور بالنقص لدى المجتمعات أحياناً. وهذه الإشكالية، لم نخترع لها حتى هذه اللحظة تدخلات فاعلة في الطب النفسي، حتى يتعافى المجتمع وتتعافى ثقة الأشخاص بأنفسهم، ولكن هذه من المواضيع التي نتطرق إليها في الصحة النفسية في فلسطين، ونأمل أن نوفر لها حلولاً في المستقبل القريب.


وإذا أردنا الحديث عن نسب الأشخاص المتضررين من نواحي الصحة النفسية في المجتمع الفلسطيني، فهناك إحصائية خلال دراسة أجراها البنك الدولي مع مركز الإحصاء الفلسطيني في بداية عام 2023، حيث تمت دراسة العينة منذ عام 2022 لكن نُشرت النتائج في مطلع عام 2023، تفيد بأنّ 70% من الفلسطينيين في غزة و50% من الفلسطينيين في الضفة الغربية، يعانون من الاكتئاب. وفي دراسة ثانية لمؤسسة «إنقاذ الطفل» تقول إن 80% من الأطفال في قطاع غزة بحاجة إلى تدخلات صحية نفسية، لكن أنا أعتقد أن هذه الأرقام تدمج بين المعاناة النفسية المؤلمة والأعراض الاضطرابية المرضية، فهناك الكثير من الأشخاص الذين يعانون، ولكن أدوات البحث المستخدمة لا تستطيع التمييز بين المرض وبين الألم النفسي، فمثلًا البنك الدولي استخدم استبياناً أعدته منظمة الصحة العالمية، وأنا أعتقد أن هذا الاستبيان لا يخبرنا بوجود اكتئاب مثلاً لدى الشخص الذي قام بتعبئته، ولا يخبرنا إذا كان هذا الإنسان يعاني نفسياً أم لا، لذلك يجب أن نكون حذرين وحريصين فيما يتعلق بتفسير الأبحاث الموجودة في فلسطين. هناك دراسة جادّة أكثر من حيث المنهجية نُشرت عام 2019، تقول إن البلاد التي يتواجد فيها عنف سياسي ومن ضمنها فلسطين، يوجد 22% من الساكنين فيها يعانون نفسياً، لكن هذه الدراسة أُجريت عام 2019، ومنذ ذلك جاء كوفيد 19 وخلق فئة جديدة من المتضررين نفسياً، ولاحقاً الأحداث غير المسبوقة التي يمرّ بها الشعب الفلسطيني في غزة تحديداً، ولكن أيضاً في الضفة الغربية والقدس المحتلة، وما يرافقها من مستوى عال من الاضطهاد، والخوف والقهر وإعادة ذكريات الصدمات التاريخية السابقة في المجتمع الفلسطيني. جميع ما ذكر، يزيد من معاناة الناس ويرفع من انتشار الضرر النفسي في الشعب الفلسطيني.

نسمع أخيراً عن تردّد مصطلح «علم النفس التحرري» الذي برز للتعامل مع الصدمات والحروب، كيف يمكننا توظيفه في السياق الاستعماري في فلسطين المحتلة؟
علم النفس التحرري يمكن وصفه بأنه عدسة جديدة ننظر فيها إلى واقعنا. فمن منظور علم النفس التحرري، لا نفهم المرض والمعاناة النفسية على أنهما شيء يخص فقط الشخص بسبب الصراعات والعمليات النفسية الموجودة بداخله، بل هو أيضاً متأثر بالسياق وبمنظومة القوى القامعة الموجودة بالسياق، وقد ظهر علم النفس التحرري في أميركا اللاتينية لكن قبله بقليل، كان هناك مُنّظِر جداً مهم من المارتينيك عمل في الجزائر واسمه فرانز فانون، وكان له الكثير من النظريات المهمة التي تصبّ في منظور علم النفس التحرري ولكنها لم توصف بعلم نفس تحرري، إنما يُطلق عليها اسم Anti colonial أي مضاد للاستعمار. كما أن هناك الكثير من المهتمين بعلم النفس التحرري في العالم يقومون بتوظيف هذه النظريات والطريقة في التفكير لمساعدة الفئات المهمشة في الشعوب حتى في شمال الكرة الأرضية في العالم الغربي، هناك الكثير من المضطهدين وغير المندمجين في المجتمع، هؤلاء إذا نظرنا إلى احتياجاتهم من منظور علم النفس التحرري، يُخلق أمامنا بُعد جديد يساعدنا على مساعدتهم وفهم احتياجاتهم.

لكن كيف يمكننا توظيف علم النفس التحرري في السياق الفلسطيني؟
في السياق الفلسطيني، من الضروري جداً أن نكون عارفين بنظرة علم النفس التحرري، كما أن هناك الكثير من الأفكار التي يعتبر منشأها فلسطينياً من داخل المجتمع الفلسطيني، وللفلسطينيين، فمثلاً كان لدينا الكثير من التحفظات والملاحظات على تشخيص اضطراب ما بعد الصدمة وهو الذي يوصف تجربة الجندي الأميركي أكثر من كونه يوصف تجربة الإنسان الواقع تحت الاحتلال، فتجربة الجندي لها بداية واضحة ونهاية واضحة، لكن تجارب الأشخاص الواقعة تحت الاضطهاد تعدّ متكررة وتراكمية ولا تنتهي، وهذه إحدى الملاحظات الخاصة بالمجتمع الفلسطيني. بالتالي مصطلح PTSD لا ينطبق على المجتمع الفلسطيني وقمنا بانتقاده رغم تبنّي الكثير من المؤسسات البحثية له. وهناك مثال آخر وهو مفهوم العناية الذاتية، وهذا يصلح عندما تكون لديك مشكلة في تنظيم الطعام مثلاً أو تنظيم وقت الدراسة، لكن عندما نكون أمام إبادة، علينا أن نفكر بمفاهيم العناية المجتمعية أكثر من العناية الذاتية، فهنا تصبح النظرة إلى العناية الذاتية كأنها نوع من التمركز حول الذات في وقت يتطلب من كل إنسان أن يقوم بمسؤوليته تجاه ما يحدث. الخلاصة أن هناك أفكاراً فريدة ذات علاقة بعلم النفس التحرري، نشأت من السياق الفلسطيني، كما أنها تضع أسئلة حقيقية حول مدى ملاءمة أفكار علم النفس الغربي للتطبيق في المجتمع الفلسطيني.

السجن إحدى أهم الأدوات العقابية المستخدمة في السياق الاستعماري في فلسطين قديماً وما بعد السابع من أكتوبر بالتحديد، إذ إن ما يقوم به الاحتلال من توظيف السجن بشكل مركزي لمحاولة ضبط الفلسطينيين والسيطرة عليهم، وما يهمنا هنا هو تفكيك الأثر النفسي عبر مشاهداتك كطبيبة نفسية لمحاولة فهم الكيفية التي تنعكس عبرها فكرة السجن على الذات الفلسطينية المُستعمَرة سيكولوجياً، وكيف يُسهم السجن في ضبطها والتحكم بها؟
السجن للأسف يعدّ أداة فعّالة جداً في هندسة سيكولوجية الفلسطينيين أولاً، ومن ناحية ثانية، يخدم السجن الإسرائيلي عبر إعطائه سراباً أن تصرفاته تتم وفقاً للقانون، قانون الاستعمار، قانون الحكم العسكري، ما يعني خلق قانون يرمي إلى تطويع الفلسطينيين، والانتقام بشكل خاص من الأفراد المناهضين للاحتلال، إذاً تجربة السجن تمس أفراداً معينين يعدّون ناشطين عادةً، ويسهمون في التعبير عن مشاعرهم وأفكارهم تجاه ما يحصل في بلادهم، لذلك يجعلونهم نموذجاً يتعلم منه الآخرون عبر الاعتقالات المتكررة والمتفشية في المجتمع الفلسطيني، التي تهدف إلى إخضاع هؤلاء الأفراد لدفعهم إلى التخلي عن مبادئهم ونشاطهم السابق. كما أن ما يحصل لهم يعدّ عقوبة لعائلاتهم، ما يجعل من الاعتقال، تجربة تخيف أي إنسان في المجتمع الفلسطيني، بمعنى أنها أداة تطويع للجميع وأسلوب تخويف وتكميم لأفواه الناس، وكل ذلك يترك أثراً نفسياً وخيماً على الأفراد وعلى المجتمع ككل، ومن منظور الصحة العامة. أعتقد أن تجربة السجن قد مسّت على الأقل مليون فلسطيني منذ عام 1967 حتى اليوم، ما يعني خُمس الشعب الفلسطيني من الرجال والنساء، لكن الرجال نسبتهم أعلى لأنه يتم اعتقالهم أكثر من النساء، لكن الأثر النفسي يُلاحق النساء أكثر .
خلال تجربة الاعتقال والسجن، يمر الأسي/ ة بمرحلة التحقيق، وبما نسميه قانونياً بتجارب التعذيب أو إساءة المعاملة، وهذه التجارب صُممت بهدف إحداث أكبر ضرر نفسي للإنسان الذي يختبرها.

كيف نلمس أثر تجربة السجن عبر الأمراض النفسية التي تصيب صاحب/ ة التجربة؟
الأمراض النفسية التي يسببها السجن كثيرة، ويمكننا الحديث عن الموضوع عبر فهمنا للأمراض النفسية كالتالي، كل شخص لديه عتبة معينة من درجة التحمل للضغط النفسي، الضغط النفسي في السجن مصنوع عمداً وهو إستراتيجي، يهدف إلى كسر الإنسان نفسياً، لذلك يبقى يتزايد حتى يصل الإنسان إلى درجة معاناة شديدة قد تكون مرضيّة. هناك أشخاص يدخلون السجن وهم يمتلكون هشاشة نفسية معينة لأنهم متأثرون من الأحداث الاستعمارية التي عايشوها في الخارج، ومن الممكن أن يكون لهم أقارب متضررون، ما قد يدفعهم إلى أخذ دور نضالي معين، وبناءً عليه، يتم تنفيذ العقاب بحقهم وإدخالهم إلى السجون، وهناك أشخاص لا يكون لديهم هشاشة نفسية واضحة، ولكن خلال السجن ومرورهم بتجارب التعذيب، تنشأ لديهم الهشاشة النفسية. الكثير من الأشخاص يصيبهم على أقل مستوى، اكتئاب، قلق، نوبات هلع. هناك الكثير من الأشخاص يحدّثوننا عن أفكار متعلقة بالانتحار، أمنية الانتحار، التفكير في الموت، أمنية الموت، وهناك أشخاص يدخلون في تجربة ذهانية حادة، بمعنى أنهم يتعرضون للهلوسات، والضلالات، تختل صلتهم بالواقع ويختل إدراكهم لما يدور حولهم، وهنا أريد أن أقتبس من بعض القصص التي سمعتها من أشخاص مروراً بتجربة الاعتقال، هناك سيدة كانت تقول لي: «وفجأة صاروا إخوتي يجو على السجن وهمة عاملين حالهم جنود، بس أنا عرفت إنهم إخوتي، كانوا يطلعوا علي من الشبابيك». هذه طبعاً فكرة ذهانية، وهناك سيدة أخرى قالت لي إنّها أنجبت داخل السجن طفلة من الحارس الخاص بالسجن، هذه أيضاً فكرة ذهانية. هناك الكثير من الأشخاص الذين يقولون إنّهم يرون الجيران يدخلون إلى السجن وينظرون إليهم، وبالتالي، قد يتعرض الإنسان للضغط الشديد والحرمان الحسي الشديد، تحديداً الأسرى الذين يتواجدون في غرف العزل الانفرادي، هم الأكثر عرضة للتجارب الذهانية، ويشكو الأشخاص أيضاً من أعراض نسميها الأعراض الحسية الجسدية، مثلاً كأن يقولوا «حسيت كأنو أمعائي تتقطع، حسيت إنه ركبي بطلت جزء مني». هذه الأعراض عادة تكون ناتجة إما من الإيذاء الجسدي والإيلام أو تجربة متعلقة بالألم النفسي.

ماذا بخصوص الوصمة المجتمعية تجاه المرض النفسي، تحديداً أنّنا نعيش اليوم في مرحلة حساسة جداً، وأي شخص معرض للاعتقال؟ وماذا تقولين لمجتمع الأسرى المحررين الذين يمكن أن يقرأوا هذه الحوارية، وإن كان بعضهم متصالحاً أو غير متصالح مع فكرة المرض النفسي؟
برأيي، الحديث في الإعلام عن المرضى النفسيين في السجون، هو كسر للصمت والوصمة حول هذا الموضوع، ومن هنا، يتوجب علينا أن نشارك عموم الناس مشاهداتنا ونسهم في تثقيفهم حول هذا الموضوع، و نساعدهم في الخروج من حالة الصمت، يترافق ذلك مع محاولات إعداد ودعم الأسرى السابقين بمهارات صحة نفسية لكي يستطيعوا مساعدة بعضهم البعض.
أنا أعتقد أن كون الإنسان فلسطينياً، إذاً فهو بحاجة إلى الصحة النفسية، لأن الصحة النفسية تقوي من العزيمة والإرادة لأشخاص يواجهون الاحتلال. ومن المهم أن ندرك أن الأشخاص الذين دفعوا أثماناً من أعمارهم ومن تجاربهم الشخصية، وتحملوا الآلام كبيرة، لأنهم يريدون الدفاع عن القضية الفلسطينية وعن الفلسطينيين، فنحن مدينون لهم بأن نحافظ على صحتهم، فالصحة النفسية هي جزء لا يتجزأ من الصحة بشكل عام. وثانياً، يجب أن ندرك أن طلب خدمات الصحة النفسية، لا ينتقص من مكانة الأسير/ ة السابق كبطل، بمعنى يمكن أن يكون بطلاً مجروحاً، ووظيفتنا نحن أن لا نأخذ منه البطولة، إنما نساعده على شفاء الجروح التي تولدت من تجربته الخاصة.