لم يكن غريباً أن يجري تسييس «طوفان دبي» الأسبوع الماضي إلى هذا الحد. فالإمارات التي تغيب السياسة إلى حد كبير عن تفاصيل حياتها اليومية، أو هكذا يريد لها حكامها، هي في الواقع موغلة في السياسة عبر التورّط في نزاعات قريبة وأخرى بعيدة عن الحدود. ولذا، حُرِم الإماراتيون والوافدون من تعاطف يستحقّونه في كارثة كالتي حلّت بهم.صحيح أن الإمارات لم تكن بحاجة إلى مساعدة نتيجة الطوفان في دبي، وأن الكارثة أصلاً لم تكن بحجم يستدعي طلب مثل هذه المساعدة. لكن وسائل التواصل الاجتماعي التي تمثّل المنبر الوحيد للتعبير الحرّ نسبياً في دولة كالإمارات والخليج عموماً، ولو بأسماء وحسابات وهمية، امتلأت بما يسيّس الكارثة حتى كاد يضيع خيط التعاطف الإنساني مع الإماراتيين. ومع أن للناس، سواء أكانوا إماراتيين أم خلافه، الحق في انتقاد حكّام الدولة، فإنه ليس لأحد الحق في الشماتة التي كانت السمة الغالبة على مواقع التواصل، حيث كُتب مثلاً أن ما حدث كان «غضباً من الله على خذلان الإماراتيين للفلسطينيين في محنتهم»، رغم أن الإماراتيين لا ينقصهم التعاطف مع الفلسطينيين، ولا الحميّة لمساعدتهم متى أتيح لهم ذلك. وما يدل على ما تقدّم، آخر استطلاع للرأي أُجري بتكليف من «معهد واشنطن»، أظهر أن ثلاثة أرباع الإماراتيين لا يرون أن التطبيع كان له أثر إيجابي على بلادهم. وهذا كان في أيار 2023، قبل أشهر على «طوفان الأقصى» والعدوان على غزة، أي قبل أن يرى العالم بأم العين المذبحة الإسرائيلية بحق الفلسطينيين.
في الموروث الديني الشعبي، ترتبط كوارث كالطوفان بالموبقات، ولكن رد الفعل عليها يختلف بحسب النظرة إلى البلد أو المنطقة المنكوبة. في أيلول الماضي، حدث طوفان درنة في ليبيا الذي دمّر المدينة، وقبله زلزال مراكش، وزلزال سوريا وتركيا، وكان التعاطف مع المنكوبين عارماً، فيما لم يربط أحد تلك الكوارث بموبقات من صنع الإنسان، كما فعل الشامتون بالإمارات. وإذ كان الموقف من فلسطين اليوم، هو الدافع الأساسي إلى مثل هذه المواقف، إلا أنه جرى استحضار مسائل أخرى من نوع التذكير بالاحتفال الذي أقامته الدولة قبل سنوات بحضور رئيسها، محمد بن زايد، لطائفة الهنود السيخ، كلَفتة لملايين المنتمين إليها المقيمين في الإمارات، أو اعتبار البغاء الذي يحصل في الدولة، ويحصل في جميع الدول، بنسب تقلّ أو تزيد، سبباً لنزول العقاب الإلهي على الإماراتيين على غرار ما عوقب به قوم لوط. ولعل هذا النوع من التعليقات يشي بتعمد شن حملة على الحكم الإماراتي، من جانب خصوم لهم حسابات خاصة مع أبو ظبي.
لم يبقِ الحكام صديقاً لبلادهم، حين ارتضوا بأن يأخذوا على عاتقهم أعمالاً قذرة نيابة عن واشنطن وتل أبيب


لم يُبقِ حكام الإمارات صديقاً لبلادهم، حين ارتضوا بأن يأخذوا على عاتقهم بعض الأعمال القذرة نيابة عن واشنطن وتل أبيب، من التدخّل في حروب تشهدها دول عربية بدءاً من اليمن، وصولاً إلى السودان، ثم التآمر على دول مجاورة منها قطر والسعودية وسلطنة عُمان وغيرها. وإذا كان حكام الدولة يظنّون أن إسرائيل، التي لا تبادل أحداً المعاملة نفسها، بما في ذلك الولايات المتحدة، هي الصديق، فالحقيقة أن تلك دولة قائمة على نكران للجميل تبرّره العقيدة الصهيونية التي تقول إن إسرائيل مُفضِلة على حلفائها دائماً، من حيث أنهم هم بحاجة إليها أكثر مما هي بحاجة إليهم. ولم يقصّر الحكم في أبو ظبي في إظهار تمسّكه بالتحالف مع العدو، وإدارته الظهر للشعب الفلسطيني، حتى بعد العدوان الوحشي الإسرائيلي على قطاع غزة.
ما جرى على وسائل التواصل خلال أسبوع «طوفان دبي»، يندرج في سياق حروب إلكترونية، أكثر منه تعليقات عفوية. هذه الحروب لها جذورها في السياسة، ومن ذلك مثلاً، التدهور الإضافي المستجد في علاقات الدولة مع الجارة السعودية، والذي وصل إلى حد رفع الأخيرة شكوى إلى الأمم المتحدة ضد أبو ظبي، بداعي وضع يدها بشكل غير قانوني على منطقة الياسات البحرية المتنازع عليها على الحدود بين البلدين. ويُضاف إلى ما تقدّم، صراع حاد ينجم عن الدور النشط للإمارات في مقارعة السعودية، ولا سيما في جنوب اليمن والمناطق الخارجة عن سيطرة صنعاء، نتيجة سعي الأولى إلى تخريب جهود الأخيرة للسلام وإبقائها متورّطة في الحرب. ففي الوقت الذي تعيش فيه الرياض حالة انتظار لا ترغب فيها في الاصطفاف بشكل حاد، تنخرط أبو ظبي بكل قوة مع واشنطن وتل أبيب في دفاعهما عن هيمنتهما المفروضة على هذه المنطقة.
وعندما تتجرأ الإمارات على السخرية من السعودية على ما تراه بوادر فشل «رؤية 2030»، مستشهدة بتقليص طول مشروع مبنى «ذا لاين» الذي يشكّل العنصر الأساسي في مدينة «نيوم»، من 170 كيلومتراً إلى كيلومترين أو ثلاثة فقط، لا يعود جائزاً استبعاد أن تقود الرياض حملة ضد دبي لمناسبة الطوفان، ولا سيما أن الأخيرة النموذج الذي يسعى ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، إلى انتزاعه من الإمارات.