لم تنجح مرحلة السلم الأهلي التي أعقبت مدة الحرب الأهلية اللبنانية في نزع الوصم الذي لحق بمفردة مَعبَر. تستدعي كلمة مَعبَر، وجمعها معابر، أشباحاً يحاول اللبنانيون قدر مستطاعهم الهروب منها، غير أنها لا تكفّ عن مطاردتهم. هناك نفورٌ طافحٌ تجاه هذه الكلمة يكاد يجعلها تبدو كأنها كلمة مسكونة بقصص الفزع والرعب. بمجرد استعمالها أو الإتيان بسيرتها، سنسمع عن أشلاء مقطّعة، وجلد ممزق، وأرواح مفقودة. يعود الأمر إلى معنى مشوّه أصاب كلمة مَعبَر نتيجة الحرب الأهلية اللبنانية وفظائعها، وقد تأصل في ذهن اللبنانيين وحال دون معناها الأصليّ. مَعبَر اسم مكان. هو الفسحة التي تتيح العبور. يعود الجذر إلى فعل عَبَر؛ أي الانتقال من مكانٍ إلى آخر، وهو ما كان مجازفةً كبيرة وُصفت يوماً بالنزهة الانتحارية، حيث كان الوصول أو العودة، أي التنقل والانتقال، مقرونين بمزاج القناص ودرجة الحرارة على خطوط التماسّ، وهكذا استمر المشهد لأكثر من عقدٍ من الزمن.

من قال إنّ الحرب لا تخطف اللغة أيضاً؟ من قال إن الحرب لا تُصيب اللغة بقذيفةٍ، برصاصةٍ، أو بشظيةٍ، فتعطبها؟ عندما كانت بيروت منشطرة إلى قسمين، لم يكن غروب الشمس ما يحدد غربها من شرقها، إنّما المعابِر التي تفصل بين المنطقتين. شكّل المَعبَر حدوداً فاصلة، على واجهته انتصبت المتاريس وتمركزت للدفاع عن مناطقها. رسم المَعبَر جغرافيا جديدة، كان يصون سيادة كلا المنطقتين، بالتالي كان أكثر من محط عبور. كثيرون تمنّوا لو بقيَ المعبر بالشكل المفارق لمعناه الأصليّ، أي حدوداً فاصلة وخطوطاً وهمية، ذلك أنّ عدداً ممن قرروا العبور ما زالوا في عداد الغياب، فيما بعضهم كان مصيره الموت، وللدقة: القتل. حَدثَ أن أكثر فصول الحرب الأهلية اللبنانية جموحاً وجنوناً جرت على المَعبَر، في صيغة الجمع على المعابِر. للكلمة تاريخ طويل من العنف إذاً، للكلمة ماضٍ كارثيّ لم تتعافَ لا الذاكرة ولا اللغة من جروحه بعد. وهذا دليل دامغ على أن اللبنانيين لم يتصالحوا مع الحرب، ولا مع ذكراها، ولا مع معجمها اللغوي. الحرب انتهت، لكن لم يهتم أحد بإعادة إعمار لغته، أو بمواجهة أشباحه، أو حتى القيام بمسح طوبولوجي من شأنه أن يكشف له «الآخر». أمام الإفصاح أو الكتمان، اختار اللبنانيون الخيار الثاني، غير أنّ عودة المكبوت، كما يخبرنا فرويد، دائماً مروّعة.
الناجون من الحرب، بمعظمهم، غارقون في كوابيسهم. يشعرون بأنهم ملطخون بخطايا ـــ قديمة ـــ تبدو كأنّها أبدية؛ خطايا جرت حين كان الوطن «وطنَين»، خاضعاً لتقاسيم المعبر وحدوده. كان لا بدّ من تقويم هذا السياق، أو أقلّه محاولة الانفكاك من الأصفاد المقيّدة الذي تنتصب أمام حاضرٍ وتمنعه من سلك طريقه من دون أعباء الماضي وذنوبه. هذا يعني فتح الزمن بعضه على بعض بسلاسةٍ وهدوء، من دون غارات وهمية وشعارات صاخبة تخرق جدار الصوت مثلما يحدث لدى كل استحقاق وطني حيث النظر إلى الأمام يجري عبر العودة إلى الوراء أو دغدغة الأشباح. يوم توقفت الحرب، زعموا أنها انتهت بمجرد أن فتحت المناطق بعضها على بعض، لكن الكلام بقي عالقاً، والأعصاب هائجة، والحرب متأهبة مثل الذي يقف على الحاجز ينتظر الموافقة للمرور. كان لا بدّ من وضع النقاط على الحروف، أو أقلّه البدء بتهجئة الحروف في محاولة الوصول إلى نهايةٍ حاسمة لهذا المأزق؛ أنّ الحرب ما زالت جارية، ولإيقافها - أو محاولة إيقافها - وجب الكلام. اجتمع الشابان اللبنانيان أنطوني طويل وسيدريك قيم وأخذا المهمة على عاتقهما، فأنتجا بودكاست يخوض هذه المغامرة وعنوانه «مَعبَر».
منهم من حمل بندقية وشارك في المعارك، فيما الآخرون كانوا مجرد «مواطنين»


البداية إذاً تبدأ بتقويض المعنى: المَعبَر بما هو عبور، فهو بالتالي تجاوز، أي تفكيك العقدة وحلحلتها، وهذا لا يجري إلا عن طريق اللسان، أن تحكي وتُخبر قصصَ الحرب فترسم ملامحها وتجعلها مرئية. عقب الرؤية، يمكنك إدراك ما تواجهه، وعندئذٍ يمكنك التغلب عليه. من هذا المنطلق، لم يعد المعبَر طريق قطع كما كان مع الحرب بعدما انحرف معناه دلالياً، وتشوّه وظيفياً، بقدر ما صار طريق وصل، في استطاعته مثلاً ربط جيلين بعضهما ببعض: الأول عاش الحرب ومراحلها فيما الثاني ولد بعد انتهائها، بيد أنه غير متعافٍ تماماً من إرثها. البودكاست يدور في هذا النطاق. يقوم «معبر» على مروّيات شفهية لأشخاص عاشوا الحرب الأهلية اللبنانية، منهم من حمل بندقية وشارك في المعارك، فيما الجزء الآخر كانوا مجرد «مواطنين» في الحرب. نحن على موعد إصغاء مع من لديه حاجة ماسّة إلى التكلم، إلى تفريغ ذاكرته، وإلى البوح عن حوادث تركت في داخله جرحاً غائراً. لا وجوه تظهر ولا نعرف أسماء المتكلمين. ما يقولونه ليس سراً حتى تنحجب الهويات، أساساً ليس من سرٍّ خطيرٍ يتطلّب إخفاؤه أكثر من الحرب نفسها، لكن أصوات المتكلمين تنوب عن هويتهم، فأصواتهم تختزن الحكايات. تتداخل الأصوات في «معبر» رغم تعدد الأشخاص وتمايزهم بعضهم عن بعض، بيد أنّ هذا التداخل يحمل دلالة تفيد بأنّ تجاربهم المتفرقة ليست كما يظنّون، ففي نهاية المطاف جميعهم يشتركون في مسارٍ واحدٍ أليم يحدده ضجيج الحرب.
في مقدمة الحلقة الأولى من الموسم الأول (الذي يضم اثنتين وعشرين حلقة)، يفاتحنا قيم وطويل بغرض البودكاست وغايته: «لم نتحدث جدياً عن الحرب... كأن هناك شيئاً ما زال عالقاً. ثمة عقد كثيرة تعود وتظهر. عندما انتهت الحرب طمرناها مثل مسائل أخرى كالمعبر وخطوط التماس، لكن ظلال ما طمرناه ما زالت موجودة». يحضر الكلام على وقع موسيقى ضبابية، خفيضة، إيقاعها بطيء يجعلنا نشعر كأننا نسبح في الفضاء. الموسيقى في «معبر» عنصر أساسي، وليست عنصراً عرضياً أو «جينيريك» مضافة. تتعمّد الموسيقى عزل المستمع عن العالم الخارجي وتجريده من حاضره لتطوف به عالياً وتزجّه في نفقٍ معتم، يتماهى مع فضاء الحرب وأخبارها. يتحول الوسيط، وهنا البودكاست، إلى معبرٍ. على الشاشة أمامنا، صورة جامدة لا تتغير. الصورة أقرب ما تكون إلى ملصق مركب مشغول وفقاً لفنّ الكولاج. قد نلاحظ شيئاً من التقشف في استخدام الصور المعروضة التي تتنوّع بين الفوتوغرافيا والتركيب، كأن الغاية، تعود لتبرز هنا مجدداً، الإعلاء من شأن الصوت: الرسالة. وفي هذا عودة أخرى، لا إلى مناخ الراديو وأجواء الحرب، بل لإعادة مفهوم البودكاست إلى جذره: الكلام. غير أنّ المنتجين حريصان على التعاطي مع الهوية البصرية كعنصر أساسيّ يضاهي دور الموسيقى، ورسائل الضيوف، لذلك سنرى تكثيفاً بصرياً حيث غالباً ما يكون الهدف من الصورة، أكانت فوتوغرافية مأخوذة من الأرشيف أو من صنف التركيب، كالكولاج مثلاً، هو اللجوء إلى التأثير وتوليد انطباع عوضاً عن الإدلاء السريع والإشهار المباشر.
نعلم مسبقاً أن روايات الحروب تنتمي إلى أدب الرعب، و«معبر» لا يتردد في كشف فظائع الحرب الأهلية اللبنانية. سنسمع عن غياب الأخ والابن و«الرفيق» الذي اختُطف، ويوميات الملجأ، عن الترهيب الممارس على الحواجز، والقتل الذي جرى على المعابر، فشهادات الأشخاص المسرودة كفيلة بجعل الحرب الأهلية المعنى الموازي للعبثية المحضة. لا يتوانى «معبر» عن توليد انطباع دراميّ ثقيل لدى المستمع، والحال أنّ هذه الدرامية كما يتضح، لهي غرضه الأساس ورسالته الكبرى، فتوليد مشاعر الشجن، والحزن والارتياب أمام مأساةٍ نتمنى دائماً أن «تنذكر وما تنعاد» ضروريّ. بيد أنّ تفادي عودتها، أي الحرب، يشترط أيضاً فهمها وإدراكها، وليس فقط تفريغ مكنونات أشخاصها. وقد يكون هذا من ضمن المراحل اللاحقة التي تلي فعل الحكي، وليس من واجب «معبر» الذي دفع نحو الإفصاح الذي كان غائباً أن يفعله. ولعلّ أفضل ما نجم عن البودكاست هو حفاظ الكلام على جوهره، فلا هو للنقاش ولا هو أخذ وردّ، بل إبانة وإظهار وكشف، على عكس محاولة إليان الراهب البائسة في فيلمها «ليالٍ بلا نوم» حين جعلت الضحية تواجه جلادها، فيما الدولة تغطّ في سبات عميق.
منذ البدء تساءل قيم وطويل، من ضمن تساؤلاتهما، عن «شكل الحياة أثناء الحرب»، وقد استطاع الكلام رسم المشهد. يبقى أنّ وصف وحشية الحرب، وتبيان المصائب المشتركة التي تطال كل منطقة على حدة، ثم الدعوة إلى رفضها بشكلٍ جازم كما فعل الموسم الأول، يدخل في حيز التعرّف إلى الحرب، وإلى تاريخ شخوصها، والتورّط في مناخاتها، إلا أنه لا يشكّل تاريخ الحرب، ولو كان الخراب واحداً. هذه مسألة أخرى يطرحها البودكاست، وقد لا يكون المنتجان معنيين بالإجابةِ عنها مثلما لا يجب تحميلهما مسؤولية ما لا يمكنهما تحمله. لم يقدّم «معبر» نفسه على أنه مرجع للراغب في معرفة الحرب الأهلية اللبنانية ومجرياتها؛ التوثيق في الحالة هذه كلمة مزعجة، فما لا شك فيه أنّ الكلام في «معبر» ـــ بغض النظر عن وظيفته في إعادة تأهيل الذوات ـــ يحيط بظروف الحياة ويصف فجائعها تمام الوصف. وقد يأخذ تعريف التوثيق، لكنّه توثيق منحصرٌ في الحياة بشكلها اليوميّ وسيرة أصحابه. ذلك أن توثيق الحرب أو تأريخها، في حال كان رغبة عند المنتجين، أو مهمة ألقيت على عاتق «معبر»، سيفرض أسئلة كثيرة: هل تكفي المأساة وحدها لكتابة تاريخ الحرب؟ ما هي الحدود التي تفصل التجربة الذاتية، وأحكامها، عن الواقعيّ العام؟ هل الاقتصار على البعد الذاتي وإغفال السياسي صالحٌ لكتابة تاريخ الحرب؟ وتتفرّع عن السؤال الأخير أسئلة عدّة: هل كل الأحزاب التي شاركت في الحرب على المستوى نفسه؟ وهل تتساوى جميعها في رتبها؟ مثلاً هل هناك طرف آخر ارتكب سبتاً أسود؟ يغيب العقل وقت الحرب، فتنفلت العبثية وتسرح، بل تسيطر على المشهد، لكن لم يكن اندلاع الحرب عبثياً، وإلا لماذا لا تزال الأشباح هائمة وتُستدعى؟ لربما هذه أسئلة نابعة من البودكاست باعتباره معبراً لها. أسئلة لم تناقش علانية بعد، ومن دون حسمها والإجابة عنها لا يمكن كتابة تاريخ الحرب أو تأريخها.
في الأشهر الأولى من هذا العام، سيعود بودكاست «معبر» بجزء جديد يحمل عنوان Special. القساوة الدرامية التي سبق أن أثّرت فينا سنجدها في هذه السلسلة، ولن يختلف علينا شيء سوى الضيوف وبعض التعديلات الشكلية. سنكون مع صحافيين لبنانيين وأجانب مارسوا مهنتهم في زمن الحرب، ليخبرونا عن الصعوبات التي واجهوها على صعيد المهنة والعيش. وجود ثيمة غالبة تخصّ مهنة الصحافة على صعيدي الكتابة والتصوير، ستفرض خطاً تصاعدياً في السرد، وإيقاعاً منتظماً يطال المواضيع ويضبطها. هذا الانعطاف الحاصل في الجزء الثاني من «معبر»، حيث البوح الشخصي ثانوي والتركيز منصبّ على سرد وقائع، ووصف الحيثيات، والتحدث عن الخبرات، يدفع بالتوثيق إلى أعلى مراتبه. نفهم من الحلقة الأولى ما عنته سوزان سونتاغ في أن الكاميرا والبندقية غالباً ما تكونان مرادفين حين نسمع أحدهم يخبرنا عن خروجه من الشارع وحمله الكاميرا واللجوء إلى التصوير، عوضاً عن التصويب بالبندقية. عدا عن سيرة الصحافيين كتّاباً أو مصوّرين، يجيب الجزء الثاني عن أسئلة مهمّة: كيف في إمكان الصحافة التي تحتاج إلى المساحة وإلى الحدود المفتوحة، تحصيل شروطها وتحقيق غايتها في الانتشار والوصول في خضم وجود المعبر/ المعابر؟ ويطرح بدوره إشكالياتٍ متعلّقة بالمهنة نفسها: هل من داعٍ لتصوير الجثث؟ ما الذي يعطي الصورة قوامها، بمعنى ما الذي يُشكّل الصورة؟ كيف يمكن أن تكون كتابة الخبر هي غاية الخبر نفسه؟ يجول «معبر» في هذه الأماكن ويتوغل حتى يصل إلى سيكولوجية الصحافي: هناك خيطٌ رفيعٌ يفصل الصحافي الذي يعمل في أزمنة الحرب عن الانزلاق وتقمّص شخصية المقاتل. يطرح أحدهم سؤالاً: هل يمكن للصحافي، والصحافة عموماً، أن يؤثر فعلاً؟ وإذا كان في إمكانه، لماذا لم يوقف الحرب؟ لا نعرف. ما عرفناه بعد إصغائنا إلى تجربة الصحافيين، أنّ كثيراً من الصور لم تُلتقط بسبب دموع المصورين المنهمرة من وراء العدسة. قد يدفع بودكاست «معبر» نحو البكاء، هذا ما تؤكده التعليقات على يوتيوب، لكن البكاء قبل حلول الكارثة لهو أمر جيد، لأنه يتيح تفاديها، ويدفعنا بودكاست «معبر» كذلك إلى الأخذ في الحسبان أن هناك عملاً جدياً، أنتجه جيل يلفّه الغموض، يدعى جيل ما بعد الحرب.

maabarpodcast.com