المرام بالفعل من إباحة الكحول، هو بالضبط إبعاد الناس عن المطالبة بحرّيات سياسية. فالحصول على الكحول في المملكة لم يكن يوماً مستحيلاً، والعقوبات التي كانت توقَّع على المخالفين، كانت من الاعتدال بحيث يمكن المخاطرة بالوقوع في محظورها. أما ما لا يمكن المخاطرة بالوقوع تحت عقوبته، فهو العمل السياسي، ليس من موقع المعارضة للنظام فحسب، وإنما أدنى من ذلك بكثير. فالمنع هنا يطاول أقل المطالب، مثل أن يكون للناس الحق في التعبير عن موقف من أحداث كتلك التي تجري في غزة اليوم، فيما ليس وارداً التساهل إزاء مطالبات من نوع إحداث تغييرات في النظام أو تغييره بالكامل.
المجتمع السعودي غير راضٍ بغالبيّته عن الجانب السياسي من عملية التحوّل
من الواضح أن قراراً كهذا هو مقدمة لقرارات أشمل في هذا الخصوص. وهو بالقطع يندرج ضمن ربط النظام القائم - الجديد بمنظومة قِيَم مختلفة تمام الاختلاف عن منظومات القيم أيام الملوك السابقين. وفي الحالتين، أي سابقاً وحالياً، ليست منظومات القيم تلك عبارة عن مبادئ حياة يريدها هذا النظام أو ذاك، وإنما مجموعة من محدّدات سلوكية تساعد في انتظام المجتمع تحت قيادته. الفارق أن الملوك السابقين كانوا يسايرون ما يرونها قِيَماً اجتماعية متجذّرة من دون أن يؤمنوا بها. أما النظام الحالي، فيسعى إلى تغيير منظومة القيم، ويعينه في ذلك الانفتاح العالمي وزيادة الاختلاط بين شعوب من قيم مختلفة.
لكن أهم ما في الأمر هو أن النظام القائم يطمح إلى أن يؤدي القطع مع الماضي اجتماعياً، إلى تسهيل القطع سياسياً أيضاً. وهذا ليس متاحاً للرعايا الذين يُدفعون دفعاً إلى القطع اجتماعياً، ويُمنع عليهم التطور سياسياً حتى لو على مستوى التعبير، فضلاً عن المشاركة في صناعة السلطة من خلال الانتخابات، مثلاً. فتح متجر لبيع الكحول في الرياض، وما قد يليه، هو خطوة على طريق تثبيت إحدى ركائز النظام الجديد. فالمراد هو تقديم ما يجري بوصفه صيرورة تقدّم حضاري سيكون لها ما يوازيها في السياسة، على صعيد الاندماج في المنظومة الغربية للدولة بكاملها، وليس لنظامها فحسب، الذي كان في السابق متحالفاً سياسياً مع الغرب، ومنفصلاً اجتماعياً عنه. وأحد أهم العناوين لهذا الاندماج هو إقامة علاقات طبيعية مع إسرائيل.
العائق أمام ذلك، هو أن المجتمع السعودي، وإن كان صامتاً، وإن كان جزء منه ليس راضياً حتى بعملية التحوّل الاجتماعي، إلا أنه غير راض بغالبيته عن الجانب السياسي من عملية التحوّل، بسبب الموروث الديني والاجتماعي السائد منذ ما قبل حكام السعودية جميعهم، بقديمهم وجديدهم. وهذا هو عملياً ما يخيف ابن سلمان من الإقدام على التطبيع المجاني الذي لا تقبل إسرائيل بغيره، في ظل شلال الدم الفلسطيني في غزة. لكن ما يجري هو الذي يُطمِّع شخصاً مثل الرئيس الإسرائيلي، إسحق هرتسوغ، في القول في دافوس إن ما يُحضّر له مع السعودية، سيكون بداية «سلام الشعوب»، خلافاً لسلام الأنظمة الذي أقيم بين تل أبيب وعدد من العواصم العربية حتى الآن.