عبرت سيارتان الحدود اللبنانية نحو سوريا. أحياء دمشق مشتعلة وكرة النار في الغوطتين تتدحرج لتصل الى سور مقام السيدة زينب. في إحدى الآليتين، كان السيد مصطفى بدر الدين يتسلّم مهمته الجديدة: القائد العسكري لقوات حزب الله في سوريا.من نقطة المصنع إلى منطقة «الست»، ساعة كفيلة لتلاحم «ذو الفقار» مع ما عشق منذ مراهقته: زخّات الرصاص والقذائف تنهمر من كل صوب... رشقات من ناحية بلدة شبعا اخترقت سيارته على طريق مطار دمشق. لم يكن موعد الشهادة، فأمام القائد مهمات كبرى.

اشتدّ الوضع خطورة. غُرف عمليات بالجملة ساهم في فتحها في جبهات عدة في سبيل وقف تمدّد المسلحين ومنعهم من إكمال أي إنجاز ميداني. منذ الأيام الأولى، التقى قائد «فيلق القدس» في الحرس الثوري الإيراني الحاج قاسم سليماني، ليباشرا التنسيق والعمل المشترك في علاقة متينة بَنَت قوات «الحلفاء» وظلّت حتى استشهاده.
«وصل السيد وأعطى زخماً قوياً للرجال المدافعين عن الحرم»، يروي أحد القياديين الذين رافقوه في «الرحلة الأولى». وصلت سريعاً قوات «الرضوان» المعزّزة (قوات النخبة في حزب الله). بدأت رحلة تطهير محيط المقام، وتحرير بلدة عقربا التي «أخذت جهداً كبيراً لأنها توصل منطقة طريق المطار بمربّع السيدة زينب»، يروي القيادي.
واحد من «المعاونين الجهاديين» للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، والمتابع الشغوف لعمله الأمني ــــ العسكري، أصبح يقضي وقته بين غرف العمليات وعلى خطوط الاشتباك على طول الخريطة السورية المشتعلة. جال «السيد» من نقطة إلى أخرى. وجوه كثيرة تعرّفت إليه في تلك المرحلة. خرج «الوجه السري» إلى الميدان. «كانت لديه طريقة خاصة في السلام على الشباب»، يروي أحد المقاتلين. نادرة هي المصافحة باليد «كان الاحتضان شيمته، وخاصة للعائدين من مهماتهم». المهووس بالتفاصيل آثر حتى «التدخّل» في مسائل تكتيكية. يروي أحد المجاهدين عن «قناص مزعج كثيراً في حجّيرة (بلدة في الغوطة الغربية)». يسأل القائد: «شو يا أخونا ليش ما زابطة... نزل حدّ الدبابة ومشى بجانبها ليحدّد هدفها تجاه القناص... ارميلي هون».
بعيداً عن «لحظة الاشتباك» كان ذو الفقار مهتماً بالتفاصيل الحياتية للشبان العاملين معه. يستفسر عن أحوال الدراسة، فيكثر سؤال «شو بالنسبة لجامعتك»، وعن حياتهم العائلية والدينية. صلابته المعروفة تنقلب ليناً مع العناصر، «يا حبيبي... يا قلبي» محط كلام لا يغيب عن لسانه. «ملك المعنويات» يصفه واحد من الشباب الذين التقوه خلال إحدى العمليات. الدفع المعنوي الهائل الذي يبثّه بين الحاضرين لا يثنيه عن ملاحقة «شكل المقاتل والهيبة». فهو يحب «البزة المرتبة» ويميل إلى الأسلوب النظامي، وخاصة بتفاصيل مثل تأدية التحية العسكرية والصرامة التنظيمية، فكان «مثلما يعاقب عند الخطأ، يحضر الثواب والمكافأة».

في مواجهة بندر

أنجز القائد ورجاله المرحلة الأولى من المهمة عبر تحرير القرى المحيطة ببلدة السيدة زينب، ثم اتجه نحو تأمين طريق المطار، وإلى أهم معركة قربه: «بوابة الغوطة الشرقية»، بلدة العتيبة.
يومها أُبلغ من جهات معنية في الحزب ــــ حسب القيادي المرافق ــــ أن «الأمير السعودي ورئيس الاستخبارات العامة بندر بن سلطان (تسلّم «الملف السوري» في تموز 2012) يتابع المعركة بدقة، وهي جزء من خطّة تديرها الرياض وأعوانها» (كانون الأول 2013). نجح المسلحون في تحقيق الخرق الأكبر والتغلغل من العتيبة نحو عمق الغوطة، مهددين دمشق.

ذكّر المقاتلون في خلال معارك القلمون بأن «دماء أطفالنا ونسائنا بعدها على الحيطان في الضاحية»
خلال الهجوم، دخل إلى غرفة العمليات ورأى الوجوه المحبطة، قال «شو بكم قوموا، نحن عزيمتنا قوية. متل ما فاتوا منضهّرهم، طالما نحن موجودين هون ما إلهم وجود، ما إلهم قعدة». «كانت معركة العتيبة من أهم المعارك التي خيضت بعقل السيد ونفحته الأمنية»، يروي قيادي عايش تلك الفترة. وكذلك كانت «معارك الغوطة الشرقية حتى استطاع مع عدد من قادته الأساسيين كالشهيد الحاج علاء البوسنة والشهيد شبيب الحاج (أبو تراب)، إلى جانب الجيش السوري، أن يقود تحرير كل قرى الغوطة المؤثرة على طريق المطار» يضيف لـ«الأخبار».
العملاني إلى أقصى حدود، كان خلال عملية العتيبة يتابع من على خطوط التماس، وعلى بعد أمتار كان «الإسعاف الحربي» يعالج عدداً من جرحى المعركة. اقترب منه شاب وقال له «زيح هيك خلينا نعرف نشتغل»، فردّ «خود راحتك، تفضّل». صُدم زملاؤه، ليسارع أحدهم بالتساؤل «ليش هيك حكيت بتعرف مين الأخ؟»، أجاب «لا والله ما عرفتو»، فتدخّل «السيد»: «ما حدا يحكي معو شي، كان عم يعمل شغلو وتصرّف بعفوية وهيدا الشي أني بحبو».
خلال عملية القصير (أيار ــــ حزيران 2013) تابع الشهيد المعركة عن بعد مع القياديين الموكلين المهمة. «كان مشغولاً بإنهاء الوجود المسلح في الغوطة الغربية وتوسيع رقعة الأمان في منطقة السيدة زينب وصد الهجمات الضخمة في الغوطة الشرقية، لقطع خط الإمداد الرئيسي من البادية نحو الغوطة فدمشق، فكانت تكتيكات الكمائن والعبوات التي استنزفت المسلحين»، يروي القيادي المرافق. ولعل أبرزها لاحقاً، كمين العتيبة الشهير (شباط 2014) الذي «توقّف عنده الإسرائيلي جيداً».

دماء أطفالنا في القلمون

في معركة القلمون (شتاء 2014)، اتجه مع نخبة من ضباط المقاومة نحو مرتفع مشرف على المنطقة، وبدأ بالتخطيط مستعيناً بخرائط أحضرها معه. كلّف القائدين الشهيدين إبراهيم الحاج (الحاج سلمان ـــ استشهد في العراق في تموز عام 2014) وحاتم حماده (الحاج علاء ـــ استشهد في حلب في تشرين الأول 2016) بالمتابعة الميدانية. انطلقت العمليات بمشاركة قيادات أساسية أخرى مع «قوات الرضوان»، ليجري تحرير معظم البلدات المهمة، وصولاً إلى يبرود حيث اكتُشفت معامل العبوات وفكّكت عشرات السيارات المجهزة للعبور بها نحو لبنان عبر السلسلة الشرقية من خلال طرق ترابية. «يبرود كانت أساس ثقل المسلحين، والسعودية وقطر اهتمتا بمعركة الفصل في القلمون»، فالهدف من تلك العمليات بعد القصير هو «تطهير تلك المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية، لحماية لبنان من أي هجوم على القرى الحدودية، ومن السيارات المفخخة التي تبيّن أن بعض التفجيرات السابقة في لبنان جاءت منها». خلال تلك الفترة، كان يحضر يومياً ويجول لمسافات طويلة على النقاط العسكرية، محفزاً المقاومين، ويذكّرهم بأن «دماء أطفالنا ونساءنا بعدها على الحيطان في الضاحية».

صاحب «العقلين»

كان بدر الدين بين قلّة من القادة الذين دمجوا العمل الأمني بالعسكري على مدى عشرات السنين من التجربة. هذه المدرسة مكّنت الشهيد من مواجهة الأخطار الكبرى التي عصفت بسوريا برؤية مختلفة. في الجانب العسكري، يروي واحد من فريق عمله أنّ «السيد ارتكز في مسار أول على إيقاف الانحدار الخطير في مسار المعركة ليصدّ اندفاعة المسلحين، ثم البدء بتوسيع الطوق الآمن للعاصمة والمقام. وفي مسار موازٍ، تابع «عقله الأمني» حماية دمشق من شبكات التكفيريين. الضوء المسلط على العاصمة وغوطتيها، مدّه ذو الفقار بالتوازي نحو مناطق مختلفة، وأهمها معارك أحياء حمص، «حيث كان يذهب كل أسبوع ليدير المعارك ويشارك في التخطيط مع ضباط الجيش السوري».
سبب فعّال في صمود أهالي كفريا والفوعة المحاصرين في ريف إدلب، هو المعادلة التي أُرسيت مقابل الزبداني الدمشقية وجوارها. حضر «ذو الفقار» خلال كل معارك المدينة مع قادة مسؤولين في قوات «الرضوان»، حتى جرى حصار مقاتلي «أحرار الشام» و«جبهة النصرة» فيها، في معادلة استمرت إلى ما بعد استشهاده ولقيت نجاحاً باهراً، إذ جرى بموجبها إنهاء الوجود المسلح في ريف دمشق الغربي وإخراج أبناء البلدتين الإدلبيتين من شبح المجازر. فإلى جانب هذه المهمة، «صنّف السيد معركة الزبداني في خانة الاستراتيجية المهمة لحماية الحدود والطريق الدولي (بيروت ـــ دمشق) الذي اقترب منه المسلحون وأصبحوا يستهدفونه، ليكون عنوان العمليات الزبداني، لكنها لكل المنطقة المحيطة ومرتفعاتها المشرفة».
5 سنوات أمضاها في العمل اليومي بين التخطيط والتنقل من جبهة إلى أخرى.

تعرّضت سيارته
لرشقات من الرصاص على طريق مطار دمشق

«كان يعود إلى الضاحية الجنوبية ليس أكثر من ٢٤ إلى ٤٨ ساعة، حيث تجري متابعة الوضع السوري في ما يخص حماية الداخل اللبناني وتفكيك شبكات الإرهابيين وحماية الحدود»، يروي مقرّب منه. رأى الوضعية العامة بنظرة استراتيجية، بترديده الدائم «لا تخافوا من كثرة سيطرتهم على الجغرافيا الواسعة... المهم الآن الأماكن الحيوية كالمطارات والمياه والكهرباء، والأهم المحافظة على المدن وترك المساحات الخالية».
تندر النقاط التي عملت فيها المقاومة ولم يكن بدر الدين حاضراً فيها. خلال معارك حلب، كان «جزءاً منها في غرفة العمليات المشتركة وداعماً لبعض العمليات الأساسية في الريف الجنوبي، حيث كانت له جولات عدة هناك، أهمها عندما أشرف على استرجاع طريق أثريا ـــ خناصر من داعش (شباط 2016)، يوم استشهد الحاج علاء البوسنة الذي تأثر كثيراً به وكان يحبه ويعتبره من أفضل الرجال في المهمات الصعبة»، يروي واحد من العاملين معه. كذلك، في معارك سهل الغاب بقي فترة طويلة في المعارك. في إحدى الجلسات التي دعا إليها في «السهل»، بعد إنهائه عرض الوضع العسكري وطبيعة المنطقة والتهديد، توجّه إلى الحاضرين: «نحن أملنا فيكم، وثباتكم هو الأساس. أنا حدّكم وداعمكم وما رح اترككم وعم تابعكم لحظة بلحظة، أنتم حماة الراية الصفراء».
صاحب الوجود الساحر، لم يغب أيضاً عن معارك الساحل يوم استرجاع مدينة كسب على الحدود التركية، وفي معارك شرق حمص ضد «داعش» في القريتين وتدمر. «عَقلا» ذو الفقار جعلاه ينظر إلى كامل الخريطة السورية من «فوق إلى تحت»، بتشابكاتها الإقليمية والدولية. تحرّك حيث الخطر الكبير والمؤثر على مسار المعركة. تسابق مع أصحاب القرار والدول الداعمة للمسلحين، عاملاً مع إخوانه على اكتشاف أي تخطيط مسبق للخصم أو تحرك لهم، ليتوجّه مع فريق مختص نحو البقعة المستهدفة «ولا يعود حتى يكسر المعادلة أو يوقف تقدم المسلحين».
دخل، وسوريا على حافة الهاوية. لم يهدأ سنين مع فريق من القادة والكوادر والمقاومين، محققاً إنجازات كبرى، وبانياً لُبُنات إنجازات قُطفت بعد استشهاده... هذه سيرتي اقرأوها، فقد عدت شهيداً حاملاً راية النصر.




الصورة جزءمن الحرب

إلى جانب مهماته المختصة بعالم العسكر والأمن، اهتمّ «السيد» بالحرب النفسية وفريق الإعلام الحربي. يروي مواكب لعمل بدر الدين أنّه «فتح كل الإمكانات للإعلام الحربي منذ قدومه إلى سوريا، من خلال بعض الإخوة الذين كان لهم باع طويل في تجربة لبنان ضد الإسرائيلي، فاستحدث كليات التدريب للإعلام الحربي وخُرّج عشرات المصورين دورياً، غطّوا لاحقاً الانتصارات في كل المعارك».
وفي فترة قيادته، جاءت «النقلة النوعية للإعلام الحربي في سوريا، وأصبح مؤسسة أساسية في توزيع المشاهد العسكرية والأخبار، حتى أصبح لدينا جيش من الإعلاميين يغطّون كل سوريا، ومنظومة حرب نفسية في الإعلام لا تزال فاعلة حتى الآن».




«الجنوبان» جبهة واحدة

للجبهة الجنوبية في سوريا حصّة وازنة في دائرة اهتمامات القائد الكبير وجهده.
«كانت عينه على الإسرائيلي دائماً لأنّه كان لاعباً أساسياً... كما تابع غرفة الموك في الأردن، وأمضى وقتاً من خلال الحضور والتواصل مع ضباط المقاومة المكلفين بتلك الجبهة، كما أشرف على الخطط الدفاعية مع الجيش السوري لكي لا يتمكن المسلحون من تحقيق تقدم كبير للتأثير على الخط الدولي وعلى دمشق، حتى جاءت الحملة العسكرية عبر استرجاع مناطق واسعة في الجنوب (معركة «مثلث الموت» في شباط 2015، حيث جرى «تحصين العاصمة» في سلسلة عمليات استرجع فيها الجيش عدداً من القرى في المثلث الرابط بين أرياف دمشق ودرعا والقنيطرة)، يروي أحد القياديين العاملين معه.
في إحدى المعارك، زار «ذو الفقار» الجبهة الجنوبية ليمضي أياماً في الخطوط الأمامية في أحد مواقع الجيش السوري. «كانت حركته كثيرة، فنصحه بعض المعنيين بالمسألة ضبط حركته لكي لا يقوم الإسرائيلي باستهدافه من الجو». أُنجزت المهمة، ليتوجّه القائد الجهادي الى غرف عمليات أخرى مفتوحة. كانت استراتيجيته في وجه إسرائيل عنوانها «كيف تكون مقدّرات القوة والجاهزية موجودة لفتح معركة بين جبهتين في آن واحد: لبنان مع قوته الثابتة للمقاومة عسكرياً، وفي سوريا مع القوة الموجودة بأي معركة».