بقوّةِ اللُّجة، يجرفنا المؤلّف الموسيقي اللبناني وجدي أبو ذياب في تأمّلاته وتصوّراته المتكثفة في رؤى ألبوم «قصائد عمودية عربية للبيانو» (بيانو: رمزي حكيم، تصميم: بشار حجازي). العمل الذي أطلقه أخيراً على منصة يوتيوب، مُحكَم تقنياً وفريد. يكتنف تجريداً ذهنياً رفيعاً، ومواءمةً جريئة بين الموسيقى والخلفية الأدبية بوصفها أساساً في محاولةٍ لا تخلو من التجريب بخطواتٍ محسوبة، علماً أنها تُوَصِّلُ التاريخ الأدبي والتاريخ الموسيقي العربي المتجذّر بالموسيقى المعاصرة. يتطلّع الموسيقي الشاب إلى أفقٍ إبداعي مغاير، عبر السعي إلى اجتراح تيّار موسيقي عربي معاصر يستنبط أفكاراً جديدة من لُبّ لغتنا الأم.

يستند مشروعه إلى 16 قصيدة من التراث الأدبي العربي، منظومة على 16 بحراً مختلفاً، لكبار الشعراء العرب، مع المزاوجة بين كل قصيدة من جهة، وبين أحد ألحان ميخائيل مشّاقة النموذجية الواردة في كتابه «الرسالة الشهابية» من جهةٍ أخرى... ليظهِّر بنيةً لحنية عربية أصيلة من صلب اللسان الموسيقي المقامي المشرقي، «فيكون الأصل في المشروع بأكمله، لحناً وإيقاعاً، مرتكزاً على تراثنا العربي المشرقي الزاخر».
تتأرجح المقامات بين النكريز، والنهاوند، والجهاركاه، ولحن الدوكاه، والراست، ولحن بياتي عشيران، وسواها. لكنّ الإشكالية المعالَجة في الألبوم تكمن في أنّ البيانو غربيّ الهوية ولا يشتمل على ثلاثة أرباع الصوت والأبعاد المشرقية- العربية. إنّ ما يقترحه ويرتئيه أبو ذياب على هذا الصعيد هو تصوير الراست على البيانو على سبيل المثال (وغيره من المقامات) من دون استخدام ثلاثة أرباع الصوت، ما يُعرَف بالـmusic illusion كما يفسّر المؤلّف، «انطلاقاً من أنّ المخزون السمعي للمتلقّي العربي يُسهم في ترسيخ وَهْم وجود المقام، رغم عدم تأدية هذه الأبعاد النغمية. وهو موضوعٌ مفتوح للنقاش»، كما قد يكون موضع جدَل.
يستند مشروعه إلى 16 قصيدة من التراث الأدبي العربي


ووفقاً لأبو ذياب «ثمّة هنا لغة موسيقية معاصرة عربية الهوى والهوية، حيث يتبدّى في آن تاريخٌ أصيل من العلوم والثقافة، وحاضرٌ شديد الميل إلى تجارب مستحدَثة، تُنقّب في أغوار الهوية العربية متدثرةً بهاجس مواكبتها للتغيُّرات الثقافية التي أمستْ تفرض منهجاً جديداً للتطوير وإنتاج الإبداع... ما يُسهم في تهيئة المناخ الفكري والعملي لمستقبلٍ واعد وصاخب، يردم فترةً زمنية من التقليد، والتبعيّة، والانقياد، والتأثر بكل ما هو غربي».
من القصائد المنتقاة في خلفية العمل: «على قدر أهل العزم تأتي العزائم» للمتنبي، و«أين في الحمى عَرَبُ» لصفيّ الدين الحلّي، و«خليليَّ لستُ أرى الحُبَّ عاراً» لصريع الغواني، و«لولاكَ ما كان ودّي» لأبو مدين التلمساني، و«إِن رَقَّ لي قَلبُكِ مِمّا أُلاقي» للبحتري، وغيرها...
يجنح الألبوم نحو النخبويّ في اشتماله معاً على التفكير الموسيقي الحُرّ نسبياً، بل الحداثي المتحرّر، وذلك المؤطَّر بوضوح الذي ينهل جزئياً من معين التراث، من دون أن يأخذه بحذافيره أو أن يؤسَر ضمن حدود جميع مستلزماته في القرن الحادي والعشرين.