في غمرة التحرّكات المطالبة بإقرار سلسلة عادلة لأساتذة التعليم الثانوي الرسمي وعودة الإضرابات، تداول طلاب الثانويات على «فايسبوك» مجدداً رسماً كاريكاتوريّاً معبّراً يقول: مين نحنا؟ تلاميذ! شو منعمل؟ منأضرب! كرمال شو؟ ما منعرف!
هؤلاء الطلاب الذين وضعتهم الأقدار بين أيدينا، لم نقم بمبادرة واحدة تجاههم، وهم وحدهم يدفعون الثمن الأكبر، من إفادات إلى تعطيل إلى سياسات إفقار التعليم الرسميّ وتخلّف المناهج... ولكن لن نضيع الوجهة: السلطة هي المسؤولة عن كلّ هذا الخلل والظلم الواقع على معظم شرائح الشعب اللبنانيّ، السلطة التي تتسمّى أحزابها بـ: إصلاح وتغيير، محرومين، مستقبل، إشتراكيّة، إلخ... كلّهم يعترف بالفساد: ولم نعثر على فاسد واحد!
من هنا نشأت الفكرة: لم تعد تجدي الوسائل التقليديّة في المواجهة، فنحن وحدنا، وهم المال والسلطة والإعلام، حتى حوّلوا الحقوق البديهيّة للأستاذ إلى أصل المشكلة، وبات الرأي العام ناقماً على الأساتذة كأنّهم سبب الفساد...

الطلاب هم وحدهم يدفعون الثمن من إفادات إلى تعطيل

سدّوا علينا منافذ الضغط، أعطوا الإفادات، وباتت الإضرابات خسارة للطلاب وتعباً على الأستاذ يذهب سدى، والمتسلّطون لا يتحرّك في وجوههم عرق حياء...
بدأ العمل: لم يبق لنا سوى طلابنا، الذين يعيشون معنا ويشهدون على حرصنا وتفانينا في صنع مستقبلهم... سندرّسهم علوم فسادكم ليصنعوا مستقبلًا لا يشبه تاريخكم.
أوقفنا الدروس في الثانويّات، وشرحنا عشيّة عيد المعلّم درساً واحداً: فساد السلطة، وحقّ الأستاذ بسلسلة عادلة.
الحملة لاقت تجاوباً في عدد كبير من ثانويات لبنان في بيروت والمحافظات.
في ثانوية الغبيري الثانية الرسمية، شرح الخبير الاقتصاديّ حسن مقلّد، للطلّاب معنى سلسلة الرواتب ولماذا هي حقّ، وأخبرهم عن بعض نماذج الفساد: هل تعلمون أنّ هناك آلاف الجمعيّات الوهميّة تتقاضى مبالغ تكفي لتمويل سلاسل؟ منها جمعيّة تحسين نسل الجواد العربيّ! هل رأيتم جواداً عربيّاً في لبنان؟ أمّا جمعيّات زوجات المسؤولين وبناتهم فلا تبحثوا عنها، فهي موجودة فقط في حسابات المصارف.
سألوه عن النظام الاقتصاديّ، فأخبرهم عن تطوّر قطاع المصارف ألف مرّة، وأرباحه الخياليّة، وهم يدفعون أقلّ ضريبة للدولة... والربح العقاريّ الفاحش من دون أيّ ضريبة؟ اسألوا عن سوليدير... أما الفقراء، فثقبت السلطة جيوبهم لتمويل الفساد. قال لهم: فرضوا ضريبة على البنزين وضرائب غيرها كثيرة تمسّ الفقراء بحجّة تمويل السلسلة، فموّلوا كلّ شيء إلا السلسلة! أخبرهم عن نظام اقتصاديّ يعاقب الصناعة اللبنانيّة ويحمي الاستيراد! أخبرهم كثيراً... ونادراً ما استمع مئات الطلاب لمحاضرة اقتصاديّة بإنصات.
بعد الظهر، ملأ الطلاب صفحات فايسبوك بهاشتاغ واحد: #ندرس_علوم_فسادكم وأتبعوه بعبارة: لنصنع مستقبلاً لا يشبه تاريخكم، وتداولوا صورة معبّرة جداً: طلاب يتلقون درساً عن فساد السلطة مقنّعين بكمّامات تقيهم
الفاسدين.
تناقشوا وتحاوروا، وشرحوا لمن لم تصله الرسالة: السلطة التي ملأت شوارع بلدنا الجميل بالزبالة هي التي تقتل الوطن وتغتال أحلامنا... أساتذتنا أمل مستقبلنا، ونحن معهم لأننا مع الحقّ. قالت إحدى الطالبات: أولاد الحكام ليسوا بحاجة للتعلّم سيرثون كراسي آبائهم ولن يعرفوا أبداً حقوق المعلّم، قال آخر: عم ندرس عن فسادكن حتى ما نعمل بأساتذتنا اللي عم تعملوه فيهن.
دمّرتم حياتنا، لكنّنا مددنا عمرنا جسر عبور لأحلامهم، لكم أموالكم الحرام، ولنا الجيل الذي سيبني الوطن: يعبرون الجسر في الصبح خفافاً أضلعي امتدّت لهم جسراً وطيد.
* أستاذ في التعليم الثانويّ الرسميّ