على بعد ثلاث قارات ونحو 12 ألف كيلومتر من بيروت، ثمة بلد يشبه لبنان في بعض ملامحه والأقدار. إنه أوروغواي. هناك، في أميركا الجنوبية اللاتينية، على الضفة الشرقية الشمالية لنهر الفضة، يقوم وطن ظلمته الجغرافيا بقدر ما قسا عليه التاريخ. لكنه رغم عسف الاثنين، عرف كيف يظل وطناً.
أوروغواي، مثل لبنان، حشرتها الأرض بين جارين لا غير. البرازيل من جهة، والأرجنتين من الجهة الأخرى. جاران متناغمان معه في التاريخ والدين وحتى اللغة في شكلها الراهن أو أصلها السابق، لكنهما ينظران إليه تاريخياً، من فوق. مثل «أخ أكبر» مزدوج، ومن كل الجهات. البرازيل، تلك القارة المترامية، تزيده 50 ضعفاً مساحة، وأكثر من 65 ضعفاً ديمغرافياً. أخ أكبر لم يستطع كبح طموحه وطمعه حتى احتل البلد الصغير المجاور، وحاول ابتلاعه طيلة فترة طويلة من الزمن. لكنه فشل في وجه إرادة بضعة سياديين، فرضوا الاستقلال عن أهل السامبا بين العامين 1825 و1830. من الجهة الأخرى قارة ثانية أصغر من البرازيل طبعاً، لكنها تظل أكبر بكثير من أوروغواي. الأرجنتين، الجار الثاني الذي يتعامل تاريخياً مع أهل مونتيفيديو على أنهم «أنسباؤنا الفقراء» في أحسن الأحوال. وفي أسوأها على قاعدة العنصرية المقيتة لكل بلد يحسب نفسه عملاقاً، حيال جار يعتبره قزماً. حتى أن أهل بيونس إيرس سرقوا روعة التانغو من جيرانهم المستضعفين، وطوّبوه أرجنتينياً، ولا من يسأل أو يدقق. تماماً كما حمّص لبنان مع اسرائيل، بعد سلسلة أرضه ومائه وغازه وأسراه.
هكذا كل «ضرباتنا» الخارجية تبدو حاضرة هناك. فضلاً طبعاً عن سلسلة النكبات الداخلية. على قاعدة أن المصائب لا تحل إلا رزماً كاملة. فكان لدى أهل أوروغواي فساد وإقطاع وغياب وعي وتخلف سلوك وانعدام ديمقراطية. وكل ما هو من نتاج صراع الربين الشهيرين: الله والمال. الله الذي نخترعه لاجتراح وهم السماء الآخرة للفقراء. والمال الذي نصكه لاحتكار الجنة الحاضرة للأغنياء.
المهم أن شعب أوروغواي، على تواضع عدده وإمكاناته ومقدرات أرضه، عرف كيف يقلب تلك المعادلة. وعرف كيف يكسر مأزقية الخيارات المطروحة عليه. حتى أنه بات يقدم اليوم وصفتين ناجعتين للبلدان التي تعرف المعاناة نفسها. الوصفة الأولى تكمن في تحول نسبة كبيرة من أبناء أوروغواي، من الانتماء الديني كخيار سياسي – اجتماعي، إلى منزلة المواطنين المدنيين بالكامل، وجداناً والتزاماً مدنياً وهوية إنسانية. وهي وصفة لا يمكن الاستخفاف بها في قارة لا تزال تتمسك بأهداب الدين. قارة أعطت لاهوت التحرير قبل أكثر من نصف قرن. وأعطت اليوم ذاك الراهب اليسوعي الذي بدأ يهز العالم بصليب من حديد تحت اسم فرنسيس. ففي أميركا أوروغواي، ليس تفصيلاً أن تنعتق عن التزامك الديني في السياسة والاجتماع والبراكسيس. وليس عابراً أن يصير أقل بقليل من نصف مواطني أوروغواي، خارج أي تصنيف ديني. أي أنهم قضوا على إقطاع الأرض باسم السماء. طبعاً لم يتحول أي منهم «فوضوياً نظرياً»، ولا دنيوياً معادياً للكنيسة أو للدين أو للمؤمنين. كل ما في الأمر أن نصف السكان تقريباً، صاروا مواطنين مدنيين. بالمطلق. وخصوصاً طبعاً وأولاً وأساساً، في قوانين حياتهم الشخصية. صاروا أبناء قانون واحد، وبالتالي وطن واحد وهوية واحدة، وكل ما تبقى كذب وتضليل.
أما الوصفة الثانية التي يقدمها أهل أوروغواي لنا، هي أن لديهم فعلاً رئيساً للجمهورية. وأنه ينتخب – كما كل الديمقراطيات الحقيقية – مباشرة من الشعب. والأهم أن رئيسهم الحالي، واسمه خوسيه موهيكا، لم يكن غير مناضل مقاتل ميليشياوي في حربه ضد الظلم والديكتاتورية والاستبداد، طيلة ربع قرن. وكان معتقلاً سياسياً ثلاث مرات. مجموع زمن اعتقاله فيها أكثر من 14 عاماً. بينها عامان تقريباً سجيناً في بئر تحت الأرض. وقبلها كان قد أصيب مرات. وفي إحداها نقل إلى المشرحة، لاعتقاد الطبيب المعاين أنه فارق الحياة، قبل أن يكتشف العكس، وتكتب له حياة أخرى. هكذا ظل «بابا موهيكا» يلاعب الموت على مدى 25 سنة، مجنوناً حتى انتصر، وصار رئيساً للجمهورية.
وصفة موهيكا للبنان، أنه بعد انتخابه، رفض الإقامة في قصر الرئيس. فظل يسكن مع زوجته في منزلهما الريفي المتواضع خارج مونتيفيديو. وظل ينتقل كمواطن عادي إلى مكتبه البسيط وسط العاصمة. حتى أنه قبل فترة، خرج من مكتبه وذهب إلى «كندرجي» لتصليح حذائه. في الطريق التقى بمتسول لم يتعرف إلى شخص الرئيس في وجهه القروي وشعره المشعث. لكن المتسول راح يبكي وهو يرجوه إعطاءه أي شيء. لم يكن الرئيس يحمل مالاً. لكنه تأبط ذراع مواطنه المعدم وعاد به إلى مكتب الرئاسة لإطعامه وإيوائه.
قد تكون في الرواية المنقولة نسبة معينة من عدم الدقة أو حتى عدم الصحة. وقد تكون تسويقاً لرئيس يظل في النهاية حاكماً في عالم ثالث. لكن الرجل سيبلغ الثمانين من عمره، حين يترك منصبه في آذار المقبل، بلا نيات تمديد ولا ثروات. وهو ما يعطيه صدقية أكبر من نظريات التركيبات البروباغاندية. وصفتان هما إذن من أوروغواي لنا: أتركوا الله في سمائه، وأطعموا فقيراً واحداً، تصبحون وطناً وشعباً، أكثر بكثير من كل حوارات الأديان العقيمة ومشاريع التنمية المزعومة مستديمة.
4 تعليق
التعليقات
-
شكراً أستاذ عزيز"أتركوا الله في سمائه، وأطعموا فقيراً واحداً، تصبحون وطناً وشعباً، أكثر بكثير من كل حوارات الأديان العقيمة ومشاريع التنمية"
-
مقارنة جميلهمقاله رائعه بالوصف والنداء الإنساني . لو ان كل سياسي و وكل ميسور في لبنان يطعم فقيرا واحدا يوميا لاصبح هذا البلد وطنا لشعب . تزداد الإنانيه واللامبالاة يوما بعد يوم . اما الطائفيه والتعصب المذهبي حدث ولا حرج. عيد ميلاد مجيد وسنه خير لك ولكل أحبائك استاذ جان
-
رئاسة نقمة ام رسالة نعمةان تكون لبنانيا موضوع وأن تعيش لبنانيا موضوع آخر.هذا اللبناني قد اتقن الكلام والعمل وصهر معدن الجودة بمعيار الامتياز وكان لسنين سلفة قدوة ومثال حتى حلت عليه لعنة الاقضية والمحافظات ولم يعد يرى الا حديث الانماء المتوازن ولست ضده في مطلق الاحوال.ولعنة اخرى لا زالت جاثمة على الصدور وهي الرئاسات الثلاث،ومن اين كانت البدعة ولماذا استمرت وما اسبابها ولماذا نستمر فيها،ينكرون ذلك ويستمرون بها وهنا المشكلة.ان تكون لبنانيافخر لا يضاهى،اخراج القيد يذكر انك لبنانيا اكثر من عشر سنوات،وهل هناك من ميزات لمن حاز الجنسية لعشرات السنين.وان تعيش لبنانيا فخر آخر،انت في زمن الدولة بلا رئيس،دولة بلاسلطة ،بضم السين،وان اشتبه الامر بالسلطه ،فتح السين،دكاكين متعددة،حتى انك تسمع توبيخا للوزراء من مذيعين ومقدمي برامج ،وروايات الكتب والصحف،رأي آخر ايضا،كثير من حرية بلا طعم للديمقراطية.ان تولد لبنانيا نعمة السماء والنقمة ان تعيش سياسة اللبنانيين.
-
الفرق هو انايضاً العربي يظن انه اذا تظاهر بانه متدين فهذا يعني انه خلوق او ذو اخلاق عند العربي المتدين هو و الاخلاق خطان متوازيان لا يلتقيان ابداً ليثبت بذللك ان الدين والاخلاق خطانمتوازيان لا يلتقيان ابداً بل انه قد اصبح من الشروط للثقة باي شخص بانه خلوق و نزيه هو ان يكون غير متدين وبعيد كل البعد عن الدين عنها يمكن الثقة بنزاهته