واقع المدرسة الرسمية اليوم ليس وليد الصدفة، بل هو نتاج تسلسل تاريخي لتآمر السلطة السياسية عليها. هذه القناعة انتهى إليها المشاركون في الحلقة النقاشية لرابطة التعليم الأساسي الرسمي بعنوان: «المدرسة الرسمية في السياسة الرسمية». وزير التربية الياس بو صعب لم يكن بعيداً عن هذا الجو. أقر هو نفسه بالتقصير في توفير سبل نجاح المدرسة الرسمية لجهة توفير المبنى اللائق والأستاذ الذي يجري اختياره وإعداده ضمن الأطر العلمية الملائمة.
لكنه تباهى في وقف التعاقد العشوائي وحصره بقرار الوزير وبعد دراسة موثقة للحاجات الحقيقية، ملقياً اللوم على كل الجهات السياسية التي تضغط عليه شخصياً من أجل نقل المعلمين من "حاجة" إلى "غير حاجة" في كثير من الأحيان، مع اعترافه بأنّه أسهم في هذه المناقلات وإن ببطء. إلّا أن المفارقة كانت في قوله إنّ الإدارة الجيدة في المدارس كانت شغله الشاغل، من خلال تأليف لجنة متخصصة لاختيار ما يفوق 200 مدير من أجل إدخال الريادة والابتكار إلى نفوس الهيئة التعليمية، في وقت أسقطت فيه اعتراضات سياسية في كل المناطق الكثير من نتائج المقابلات الشفهية التي أجرتها اللجنة، ما أفضى إلى تعيين مديرين لا يتمتعون بالحد الأدنى من المواصفات التربوية المطلوبة للمنصب.
وكان لافتاً أن يتحدث بو صعب عن تشكيل فريق متمكن لجهاز الإرشاد والتوجيه ليتمكن من القيام بواجبه في متابعة التنسيق والإرشاد في المدرسة الرسمية، فيما لفت رئيس دائرة التعليم الرسمي السابق علي خريس، في الحلقة النقاشية، إلى إلحاق أكثر من 300 أستاذ بمديرية لم تقونن بعد. بل إنّ لدى مديري الثانويات والأساتذة قناعة بأن الإرشاد التربوي هو مساحة للاسترخاء واللاإنتاجية. دليل هؤلاء أنّه لم يجر يوماً إعلان وطني عن أثر الإرشاد في التربية وتثمير النتائج المتأتية من لقاءات العمل بين المرشدين والأساتذة لمواكبة المستجدات التربوية ووصل الأستاذ بكل المتغيرات الحديثة التي تعتمدها الدولة في سياستها التربوية وفي مناهجها.
خريس بدا مقتنعاً بأن السلطة لم تقف يوماً إلى جانب المدرسة الرسمية. بالنسبة إليه، القصة بدأت منذ أن وضع أول منهج رسمي للتعليم بعد إعلان عهد المتصرفية وترك الخيار للمدارس الخصوصية الأهلية والإرساليات، وخصوصاً الفرنسية والأميركية، في أن تضع مناهجها الخاصة. واستمرت المؤامرة بعد الاستقلال مع إغلاق أبواب الوظيفة العامة في وجوه المتعلمين في المدرسة الرسمية وتأمينها لمن يرضى عنهم السياسيون من متخرجي المدارس الخاصة قبل انتزاع فئة عريضة من الشعب اللبناني حقها بإنشاء مجلس الخدمة المدنية. ولم يتوقف المسلسل في سبعينيات القرن الماضي حين أزعجت التحركات المطلبية للمعلمين السلطة، فأصدرت مرسومين قضيا بصرف327 أستاذاً من الخدمة. أما التميّز الذي عاشته المدرسة الرسمية بين عامي 1960 و1973، فسرعان ما عصفته الحرب الأهلية، إذ تخلخلت أركان هذه المدرسة بعد هجرة معلميها إلى مدارس مناطقهم والتحق كل معلم بمدرسة ضيعته أو منطقته. وقد تقهقر الوضع منذ انتهاء الحرب وحتى اليوم.
يرسم خريس ملامح هذا الانهيار، فيشير إلى أن وزارة التربية سدت حاجة المدرسة الرسمية في الأطراف إلى معلمين من طريق التعاقد، بالرغم من وجود ثلاثة آلاف معلم فائض في الملاك ومحشورين في مدارس المدن. ويقول: «لو علمنا بأن الدولة لا تملك أكثر من 36% من الأبنية المدرسية والباقي مستأجر أو تقدمة من الأهالي والبلديات وغير صالح للاستعمال (عكار، البقاع، جرود كسروان)، وأنّ ما تدفعه الدولة أجرة مبانٍ مدرسية هو نحو 20 مليار ليرة، لعلمنا أين يذهب الهدر للمال العام، مع الإشارة إلى أن الدولة تملك ملايين الأمتار المربعة من الأراضي في كل المناطق، وقد تنازلت عنها البلديات لمصلحة مشروع تجميع المدارس الذي وضع في الأدراج عام 1970».
ويلفت إلى أنّ إدارات المدارس والمعلمين لم يتعايشوا مع فلسفة المناهج الجديدة، وبقي التعليم على وتيرته القديمة لعدم توفير المستلزمات التربوية الضرورية لتطبيق المناهج في المدرسة الرسمية حيث استفادت المدرسة الخاصة من هذا التطور. وما زاد الطين بلة إقفال دور المعلمين وتحويلها إلى مراكز تدريب مستمر للمعلمين، حيث يعمل 6 دور من أصل 34 داراً، فيما خسرت كلية التربية دورها في إعداد المعلمين للمدرسة الرسمية، إذ باتت تخرّج معلمين بإفادات جامعية من دون إلزام الدولة بتوظيفهم، فتستفيد من خبراتهم المدارس الخاصة.
يستشهد خريس بما ورد في كتاب للمفتش التربوي العام السابق رضا سعادة، الذي يسمي فيه وزارة التربية بوزارة النقل والمناقلات، إذ نُقل 6918 معلماً بين 2001 و2003،
ومعظمهم من مدارس تحتاج إلى خدماتهم، إلى فائض في مدارس أخرى. كذلك أُلحق 368 معلماً بالإدارات الرسمية عامي 2003 و2004، وأُلحق 1161 معلماً بالثانويات الرسمية ليعملوا إداريين. ويذكّر خريس هنا بأنّ المناقلات بتكليف مدير مدرسة، ولو ابتدائية، لا تحصل إلّا بموافقة الوزير. ويشير إلى أنّ 500 مدرسة فقط من أصل 1014 مدرسة ابتدائية تضم مرحلة الروضات، فيما يبلغ عدد المعلمات 4824 معلمة تحمل نحو 1000 معلمة منهن فقط شهادة في التربية الحضانية. وبحسب رواتب تشرين الأول 2014، هناك 31454 معلماً في الملاك و11 ألف متعاقد.
يوافق المدير العام السابق لتعاونية موظفي الدولة أنور ضو خريس، في أن المدرسة الرسمية عانت من غياب النيات الطيبة من السلطة السياسية، وأن ما سمي تاريخياً "حرية
التعليم" ضرب تكافؤ الفرص بين اللبنانيين وأدى إلى التراجع في أعداد التلامذة في المدرسة الرسمية لمصلحة المدرسة الخاصة، إذ انخفض العدد في الأولى من نحو 333 ألف في عام 2000 إلى 247 ألفاً في عام 2014، أي بنسبة 25.6%، بينما ارتفع في التعليم الخاص من 544 ألفاً إلى 664 ألفاً في الفترة نفسها. في المقابل، تبلغ كلفة التعليم للتلميذ في المدرسة الرسمية مليوناً و930 ألف ليرة في المرحلة الابتدائية، ومليونين و593 ألف ليرة في المرحلة المتوسطة و3 ملايين و69 ألف ليرة في المرحلة الثانوية.
النقابي محمد قاسم، يدعو إلى عدم تعميم الحالة الإحباطية للمدرسة الرسمية والقول إنّ نسبة الطلاب إلى عدد الأساتذة في المدرسة الرسمية هي واحد إلى سبعة، لأنها ليست دقيقة، لأن عدد أساتذة الملاك لا يتجاوز 25 ألفاً، بينما عدد المتعاقدين لا يتخطى 4 آلاف إذا ما احتسبت ساعات التعاقد، في حين أن عدد التلامذة في المرحلتين الأساسية والثانوية يبلغ 320 ألف طالب. وطالب قاسم بمجلس أعلى للتربية للتخطيط للعملية التربوية وبحملة وطنية شاملة لوضع حد لواقع المدرسة الرسمية المرير.
أما رئيس رابطة التعليم الأساسي الرسمي محمود أيوب، فناشد وقف التدخلات السياسية التي تثمر مناقلات تتنافى مع الحاجة التعليمية، سائلاً عن الهبات والقروض التي نقرأ عنها في الصحف ولا نلمسها على الأرض الواقع، فيما «صناديق مدارسنا تشكو الحاجة سنوياً ولا تقبض كامل مستحقاتها إلاّ بعد انقضاء العام الدراسي». وقال إنّ سلسلة الرتب والرواتب ليست مجرد حق، بل حاجة مادية في زمن الغلاء المستفحل.