الحلقة ٥٨
انطلق الشكل الموسيقي الكلاسيكي المعروف بالـ«كونشرتو» قبل باخ بقليل، وكان عبارة عن حوار بين مجموعة آلات وأوركسترا ويُسمى «كونشرتو غروسّو». فيفالدي وباخ أحدثا علامة فارقة في حقبة الباروك، علماً أن إنجاز الأول تغلب فيه الكمّية النوعية والعكس صحيح بالنسبة للثاني.
تطوّر الكونشرتو مع المؤلف الألماني ثم بعده (موزار، بيتهوفن، برامز، تشايكوفسكي،...) ولا يزال رائجاً حتى يومنا هذا. مع الإشارة إلى أن الاسم (المغري؟ لماذا؟) لهذا الشكل الموسيقي دفع بالبعض (في لبنان العظيم) إلى استخدامه من دون احترام الحدّ الأدنى من قواعد التأليف (شكلاً ومضموناً) التي تفرض حكماً، متى اتُبِعَت، اسم «كونشرتو» على أي مقطوعة موسيقية.
حكاية كونشرتوهات باخ معقدة جداً. فالرجل كان يكتب كونشرتو لآلةٍ ما (الكمان مثلاً) وأوركسترا ثم يعود إليه مستبدلاً الآلة الأساسية بأخرى (الهاربسيكورد غالباً). حتى أن بعض أعماله في هذه الفئة لا يخضع للشكل الكلاسيكي المتعارف عليه، مثل «الكونشرتو الإيطالي»، وهو عملٌ يوحي بوجود أوركسترا، بينما هو للهاربسيكورد المنفرد. من جهة ثانية، لا يلحظ كاتالوغ أعمال المؤلف الألماني تاريخ التأليف الدقيق في معظم الأحيان. فالترقيم حصل لاحقاً (الأحرف BWV – أي «كاتولوغ أعمال باخ» باللغة الألمانية – يليها رقم) ولم يعتمد ترتيباً زمنياً نسبة إلى تاريخ التأليف مثل كاتولوغ موزار أو تاريخ النشر مثل كاتالوغ بيتهوفن على سبيل المثال، بل تم جمع الأعمال في مجموعات بحسب شكلها: أعمال دينيّة، كونشرتوهات، أعمال للأورغن، للكمان، للأوركسترا... وغالباً ما يشار إلى فترات زمنية، يُستَنَد فيها إلى المدن التي عاش وتسلّم فيها باخ مهمات موسيقية (أبرزها فايْمار ولايبْزِغ). كذلك، وفي ما يخص «السيرة» المعقّدة لأعمال باخ عموماً وكونشرتوهاته خصوصاً، نشير إلى أن الكونشرتو الذي نسمع منه الحركة الأولى اليوم، استخدم باخ حركاته الثلاث في أعمال أخرى (وهذه سياسة رائجة جداً عنده): الأولى والثانية نجدهما على شكل مقدّمة ومطلع غنائي لعمل دينيّ والثالثة على شكل مقدّمة لعمل ديني آخر... وعندما نقول عملاً دينياً عند باخ يعني وجوب استبدال الهاربسيورد بالأرغن الكنسي.
سمعنا بالأمس أحد أشهر أعمال المؤلف الألماني، في إعداد مميَّز للفرنسي جاك لوسييه الذي أسقط روح الجاز على تحفة من حقبة الباروك بإتقان ومسؤولية. اليوم نسمع العمل ذاته – أي الكونشرتو الأول لهاربسيكورد (مستبْدَلاً بالبيانو الحديث كما هو رائج) – لكن بنسخته الأصلية. ويمكن الاستماع إلى هذه الحلقة أكثر من مرّة لتثبيت العمل وتفاصيله في الذاكرة، ثم العودة إلى الحلقة 57 لتمييز الإضافات والتعديلات التي أنجزها جاك لوسييه على النسخة الأصلية. في هذا متعة... لا تفوِّتوها!
أخيراً، عذراً على الإطالة في الشرح والدخول في تفاصيل لا تنتهي. لكن يمكن للقراء/المستمعين الاكتفاء بما يهمهم من هذه المعلومات أو الاستغناء عن النص برمّته لصالح الاستماع إلى الموسيقى مرّة إضافية... وهذا أفضل الخيارات.